في مجمل العالم الناطق بالإنجليزية، باتت كلمة “أورويلي” مصطلحا معتادا، يستخدم لوصف كل شيء من كاميرات المراقبة إلى تقنيات رصد الموظفين.
بالنسبة لمن يعيشون في الغرب، ما تزال حكاية أورويل التحذيرية بشأن تغول الحكومة والرقابة الشاملة والدعاية – لحسن الحظ – وصفا لما يمكن أن تكون عليه الأمور وليس ما آلت إليه.
ويقول الكاتب أسامة جاويش إن هذا ليس هو الحال في مصر. ففي مثل هذا اليوم قبل ستة أعوام، انقض بلطجية الرئيس الحالي، الجنرال السابق عبد الفتاح السيسي، على ميداني رابعة والنهضة وقتلوا تسعمائة من المتظاهرين السلميين، فيما اعتبرته منظمة هيومان رايتس واتش واحدة من أكبر عمليات قتل المتظاهرين في يوم واحد في التاريخ المعاصر، وما يمكن أن وصفه “جريمة ضد الإنسانية”.
ويضيف جاويش، «ما لبث جنون العظمة والعنف الذي أظهره السيسي خلال الأيام التي سبقت المذبحة وأثناءها أن استمر، ولو بأشكال مختلفة. فقد تعرضت البلد منذ ذلك الحين إلى نوع من الخنق البطيء المستمر دونما توقف، والذي لا يمكن أن يصدر إلا عن حالة من الطغيان، ويتمثل في قوانين تزيد من تقييد الحريات وقمع مستمر ومتعاظم وتداعيات في غاية الخطورة تعود على كل من يتجرأ على تحدي الدولة، الأمر الذي جعل منظمة العفو الدولية تصف مصر بأنها سجن مفتوح».
وقال الكاتب إن سمات التطابق تتجاوز مع أويشينيا في رواية أورويل ما هو سطحي. يعمل وينستون سميث، الشخصية المركزية في رواية 1984، في “تصحيح” السجلات التاريخية حتى تنسجم مع افتراءات الأخ الكبير. لقد عمل السيسي، مثله في ذلك مثل الأخ الكبير، على تحويل وسائل الإعلام المصرية إلى ناطق باسم الدولة. ولذلك يمارس منتجو البرامج التلفزيونية رقابة ذاتية أو يشيدون دوما بالنظام خشية أن ينالهم بطشه.
ويشير جاويش ألى أن هذا أمر في غاية الخطورة، وخاصة في بلد يعاني أكثر من ربع السكان فيه من الأمية، وذلك أن منتجي البرامج التلفزيونية هم من يشكلون الرأي العام. وحتى داخل ملاعب كرة القدم، يتم سحق كل مظهر من مظاهر المعارضة، ولا أدل على ذلك من أنه حينما صفق المشجعون لمحمد أبو تريكة أثناء دوري كأس أفريقيا، استخدمت الطيارات السيارة للتعرف عليهم وتحديد هوياتهم. وما تجدر الإشارة إليه أن مصر تتفوق على كل دول العالم الأخرى في عدد من تسجنهم السلطات بتهمة الترويج لأخبار كاذبة.
إذن.. يبدو أن “وزارة الحقيقة” في مصر تعمل بكامل طاقتها، وكذلك الحال مع “وزارة السلام”. في العالم المرعب الذي تصفه مخيلة أورويل، تخوض الدول الكبرى القارية فيما بينها حربا أبدية. تستمر الحرب حتى يتمكنوا من إحكام سيطرتهم الأيديولوجية على الناس. لا يختلف الأمر في مصر عن ذلك، والعدو الذي تخوض البلد معه صراعا لا نهاية له جهة مألوفة: إنه “الإرهابي”.
ومثله في ذلك مثل الطغاة الذين سبقوه – وكل الطغاة الآخرين في أماكن أخرى من العالم – يستخدم السيسي “الإرهابي” شماعة لتبرير ما يرتكبه من جرائم. فذلك هو السبب في الحرب الخفية التي تدور رحاها داخل شبه جزيرة سيناء، وفي الاحتجاز الجماعي لما يقرب من ستين ألف سجين رأي، وفي البطش الذي تمارسه قواته الأمنية. وتلك هي الوسيلة التي من خلالها يبرر داعمو السيسي الدوليون – ضمنيا أو سوى ذلك – مباركتهم المستمرة لرجل بدأ عهده بارتكاب جريمة قتل جماعية. كان جديرا بهم أن يعلموا، كما يخبرنا التاريخ، أن أي رجل يمارس مثل هذه الانتهاكات والجرائم ضد الإنسانية ليس من النوع الذي يؤمن بالحقوق السيادية للفرد. منذ ذلك اليوم الأسود قبل ستة أعوام في القاهرة، لم تتوقف أعمال العنف بشكل أو بآخر –عدوانا على الأبدان والأنفس والأرواح.
ولفت جاويش في مقاله، الذي نشر في مجلة نيوز ويك وترجمته صحيفة «عربي 21»، إلى السمات الخبيثة بشكل خاص في مصر السيسي (كما كان عليه الحال في أوشينيا)، ومنها أن الدولة القمعية نفسها تمنح الأمل الوحيد في الخلاص. ومن يرغبون في الهرب من أوضاعهم وتحسين ظروفهم فبإمكانهم أن يفعلوا ذلك من خلال التقرب من الظالم وتعزيز علاقتهم به.
لا يزدهر في مصر الحديثة سوى جهاز الدولة المتضخم – الحكومة والجيش ووسائل الإعلام التي تسيطر عليها الدولة. ومن ينضمون إليها يتوجب عليهم إذن إبرام اتفاق مع الشيطان كذلك الذي فعله فاوست، فيتخلون عن إدراكهم لما هو صواب وخطأ ولما هو حق وباطل، في سبيل التخلص من السلاسل التي تقيدهم.
هناك تشابهات أخرى ولكن ثمة اختلافات هامة أيضا. كتب وينستون يقول: “لئن كان هناك أمل فهو يكمن في العمال.” ولكن، وهذا يصبح أوضح كلما مضت السردية قدما، لا يوجد في الحقيقة أي أمل لشعب أويشينيا. المرعب في رواية 1984 هو استمرار الوضع القائم، أي فكرة أن كل شيء تقريبا سيبقى على حاله إلى الأبد، باستثناء أن يحدث ما هو غير متوقع وغير محتمل وكارثي. كما هو الحال في مصر، فانعدام أهلية السيسي كإداري ومتصرف في المال العام دفعت بالبلاد نحو حافة دمار اقتصادي ومجتمعي.
إذن، لا يتمثل الرعب في مصر السيسي فقط فيما يقع يوميا من توحش وجنوح وإفقار ومعاناة، وإنما أيضا في إمكانية واحتمال أن تتردى الأمور إلى ما هو أسوأ من ذلك. ثمة احتمال بأن ترتكب في مصر هذا العام مذبحة كبيرة بحسب ما ورد في تقرير مشروع التحذير المبكر. وبناء عليه، يتوقع البعض أن تصبح مصر الدولة الفاشلة التالية في العالم. وحينما يفشل بلد تعداد سكانه مائة مليون نسمة تقريبا، فإن العواقب ستكون وخيمة جدا لدرجة أنها تستعصي على الوصف.
واختتم جاويش مقاله، «بعد مرور ستة أعوام على مذبحة القاهرة، تطالب مصر بحرقة بالديمقراطية. ففي غياب الديمقراطية خلال السنين السابقة منذ الانقلاب العسكري في عام 2013، أقام السيسي إمبراطورية من الأكاذيب، وبات تزوير الانتخابات هو الأصل، وشاع الاختفاء القسري والتعذيب، ولم يعد ثمة وجود لحرية الكلام والتعبير والتجمع. فبالنسبة للسيسي، يبدو أن الحرب هي السلام والحرية هي الاسترقاق والجهل هو القوة».