وصف الكاتب والصحفي البريطاني، روبرت فيسك، ما يحدث في مصر، من انتهاكات وتجاوزات في ملق حقوق الإنسان، بـ “القمع الوحشي”، مؤكدا أن الأزمة “أعمق بكثير من مصير اثنين من الفنانين”، مشيرا لطرد الفنانين “عمرو واكد” و”خالد أبوالنجا” من نقابة الممثلين.
ونقل فيسك، في مقاله بصحيفة “إندبندنت” البريطانية، الذي ترجمه موقع “عربي 21″، الاتهامات التي وجهت للفنانين المصريين، بعد لقائها بأعضاء الكونجرس الأميركي، للحديث عن انتهاكات حقوق الإنسان في مصر، واتهامهما بالخيانة والتآمر ضد أمن مصر واستقرارها.
وهذا هو نص المقال المترجم:
إن إنتاج كوميديا هزلية طريفة تُعرض على المسرح أو الشاشة حلم كل ممثل. لكن الشخصيات الرئيسية الثلاث في هذه المسرحية هم الممثلون أنفسهم. وكما هو معتاد في مصر، استأثر سمو فيلق المشير عبد الفتاح السيسي بالبطولة، فضلا عن أن موضوع هذا الإنتاج المسرحي قديم ومألوف: قوة النقابات العمالية والخوف من الثورة الحقيقية.
لكننا سنبدأ بأحدث مشهد، الذي يتم تجاهله فعليًا في الغرب، حيث حرية التعبير وحقوق العمال وحريتهم “ثمينة” و”مقدسة” و”قريبة من قلوبنا”. هذا الأسبوع، طُرد ممثلان مصريان بارزين، وهما عمرو واكد وخالد أبو النجا، من نقابة الممثلين المصرية الخاضعة لسيطرة الحكومة بتهمة “الخيانة”. وقد أدين كلاهما “بخيانة الأمة” والعمل من أجل “أجندة المتآمرين ضد أمن مصر واستقرارها”. وفي هذا الصدد، أخبر رئيس النقابة وكالة “فرانس برس” بأنه “لن يسمح لهذين الممثلين بعد الآن بالعمل في مصر”.
وعلى الرغم من أن واكد فاز بجائزة أفضل ممثل في مهرجان دبي السينمائي قبل خمس سنوات ولعب دور البطولة في فيلم “سريانا” مع جورج كلوني سنة 2005، إلا أن الأداء المميز لكل من الممثلين كان يوم الاثنين الماضي عندما استخدموا منصة جلسة استماع في الكونغرس الأمريكي لإدانة حقوق الإنسان التي يتفاقم وضعها كل يوم في مصر، والتشريعات الاستثنائية التي قد تسمح للسيسي بالبقاء في السلطة حتى سنة 2034.
وصف النجا، نجم العديد من الأفلام المصرية، بلدًا يتعرّض شعبه للسجن أو العيش خوفًا من الاعتقال، في حين قال واكد إن النظام الذي يديره السيسي، الذي قام بانقلاب عسكري ضد الرئيس المصري المنتخب محمد مرسي سنة 2013، قد طور “حساسية” ضد الحقيقة، وهو ادعاء يتضمن مفارقة مؤلمة.
ومثل العشرات من الروائيين والفنانين والصحفيين وغيرهم من الأدباء المصريين، كان كل من واكد والنجا من بين الذين ساندوا منذ البداية بسذاجة الانقلاب الدموي الذي أوصل السيسي إلى السلطة. وقد أشار واكد، الذي أكسبه انتقاده للحكومة هذا الشهر حكما بالسجن لمدة ثماني سنوات في سجن مصري (غيابيا بالطبع وذلك لأنه يعيش في أوروبا)، إلى أن حظر النقابة تمثيله لا يهم، حيث قال: “إذا عدت إلى مصر، فلن يكون لدي متسع من الوقت للتمثيل لأنني سأحتجز في الحال”.
لكننا الآن ندخل في دراما أكثر جدية تقوم على سحق السيسي لجميع المعارضين داخل حركات النقابات العمالية القوية في مصر، والتي قاتلت تاريخيا القوة الاستعمارية البريطانية وكذلك نظامي ناصر والسادات والتي لعبت دورًا حاسما ولكن تم تجاهله بشكل مأساوي في الثورة التي دمرت دكتاتورية حسني مبارك.
منذ أكثر من عام بقليل، استبعدت السلطات المصرية النقابات العمالية المستقلة من المشاركة في أول انتخابات نقابية تجرى منذ 12 عامًا. لذلك، اشتكت منظمة العفو الدولية من “حملة الحكومة المصرية ضد العمال والنقابيين لردعهم ومعاقبتهم من التعبئة أو الإضراب”.
يحب الرومانسيون تصوير نضال استقلال مصر على أنه معركة من أجل الحرية من قِبل شعب معادي للاستعمار يطالب بالديمقراطية وانتخابات حرة وكرامة بعد سنوات من الاضطهاد في ظل سلسلة من الديكتاتوريات الممولة من بريطانيا وروسيا ثم الولايات المتحدة. ولكن هذه القصة صحيحة جزئيا فقط، فقد كان الصراع أيضًا صراعًا دينيًا، ويدافع بشكل أقل عن مطالب العمال بالحرية وتوفير أجر معيشي محترم.
في مصر، كانت صناعة القطن في الدلتا شمال القاهرة مركز هذه الثورة المنسية، حيث تعد مركز تصدير يتمتع عماله بقوة صناعية كبيرة، إذا ومتى سُمح لهم بممارستها.
تصدى عمال صناعة القطن للحكم البريطاني ونظموا تمردات متتالية في عهد مبارك. وكان أهمها سنة 2006 عندما قادت العاملات في صناعة القطن رجالهن في انتفاضة ضد النظام في مدينة المحلة الصناعية الكبيرة. وقد استخدموا وسائل التواصل الاجتماعي لجلب عشرات الآلاف من العمال من الريف إلى الميدان المركزي للمدينة، وكان يطلق عليه في الواقع ميدان التحرير، وأقاموا خياما تحت نيران الغاز المسيل للدموع من قبل الشرطة.
كما دعوا إلى الإطاحة بمبارك، وهو مطلب يتجاهله عادة معظم الصحفيين، الذين كانوا مهتمين فقط بالمعارضة الإسلامية لحكم الحكومة المصرية، لكنه أثار انتباه ديكتاتورية ذلك الوقت، الأمر الذي ساهم في زيادة أجور مواطني المحلة على الفور وتحسين ظروفهم ومنحهم ساعات عمل أقل وزيادة عدد المقاصف.
على الرغم من أننا، نحن المراسلون، لم نغط هذه التحركات عندما انطلقت، إلا أننا لاحظنا أن عمال القطن في المحلة كانوا من بين أولى المجموعات الصناعية التي وصلت إلى ميدان التحرير الأكبر في القاهرة عندما اندلعت الانتفاضة في كانون الثاني/ يناير 2011.
لقد أدرك الجيش المصري، الذي أدار مرحلة ما بعد الثورة بحزم شديد، أن تضامن الطبقة العاملة قد يكون بنفس خطورة الوحدة الإسلامية. كانت جماعة الإخوان المسلمين، التي لم تكن منظمة “إرهابية” على الرغم من اتهامات السيسي الحالية لها، غير محكمة القيادة وغير منظمة سياسيا ومنقسمة داخليا.
كانت النقابة العمالية المستقلة للعمال المصريين الذين طردوا الآن من الحركة النقابية الرسمية للعاملين في الحكومة، هيكلا مختلفًا تمامًا نظرا لأنه كان جيشا أيضا. وقد مثّل كل طفل من أبناء الشعب المصري الجنود الذين كلفوا بـ “توجيه” مستقبل ثورة ما بعد 2011.
كان الإدراك الرسمي لهذا واضحًا بحلول سنة 2015، عندما قررت المحكمة الإدارية العليا المصرية أن الحق في الإضراب “يتعارض مع التعاليم الإسلامية وأغراض الشريعة الإسلامية”. جاء هذا الحكم بعد يوم واحد فقط من حضور السيسي احتفال يوم العمال إلى جانب الاتحاد العام لنقابات عمال مصر الذي وصف رئيسه، جبالي المراغي، السيسي الذي من المفترض أن يفوز في الانتخابات الرئاسية التي أجريت العام الماضي بحصوله على 97.08 في المائة من “الأصوات”، بطلا و”منقذ مصر”.
في حال كانت الجماهير العمالية قد فوتت هذه النقطة، فقد قال “النقابي” المراغي إن السيسي أعاد كرامة مصر، الذي هو ادعاء وجده السيسي محرجًا للغاية حيث أجابه “هذا ليس صحيحا” مُصرًا على أن ملايين الناس أنقذوا مصر. لكن بعد ذلك سلم المراغي السيسي “درع الاتحاد” باسم العمال المصريين الذين جاء في بيانهم الثاني رفضهم الإضرابات والتزام الاتحاد بـ “الحوار مع الحكومة وأصحاب الأعمال”.
ولعل الأمر الأكثر إثارة للصدمة هو أن المراغي أجرى مقابلة في إحدى الصحف قال فيها إن “مهمتنا هي تنفيذ جميع مطالب الرئيس عند لقائه بالعمال، وزيادة الإنتاج ومكافحة الإرهاب”. ومنذ ذلك الحين، انتهى الحديث عن النقابات المستقلة وتعرض ممثلو العمال للسجن أو التهديد بالاعتقال.
وفي حال كان ينبغي لأحد أن يقلل من مخاوف النظام من قوة الاتحاد، دعونا نتذكر قضية جوليو ريجيني، الطالب الإيطالي البالغ من العمر 28 عامًا، الذي كان يدرس سنة 2016 نفس النقابات المستقلة التي أخافت السيسي. وقبل أسابيع قليلة من وفاته، كتب ريجيني أن تحدي “النقابات المصري” لحالة الطوارئ ونداء النظام من أجل الاستقرار والنظام الاجتماعي، الذي تبرره “الحرب على الإرهاب”، يدل على استجواب جريء للخطاب الأساسي الذي يستخدمه النظام لتبرير وجوده وقمعه للمجتمع المدني”.
عقد الطالب اجتماعات مع بعض ممثلي النقابات في المحلة وكذلك في مدن الدلتا الأخرى وفي القاهرة، ثم عثر عليه جثة هامدة على جانب طريق دائري بضواحي القاهرة ووجهه وجسمه مشوهان بشدة من جراء التعذيب الذي توفي بسببه.
سخر رجال شرطة السيسي من جرائم القتل التي ترتكبها العصابات و”الأشخاص الشريرين”، وحتى أشاروا إلى أن مقتل ريجيني المسكين كان بسبب “قصة غرامية” الأمر الذي يعد عاريا من الصحة. وقد خلصت الحكومة الإيطالية إلى أنه قُتل على أيدي شرطة أمن الدولة التابعة للنظام لأن تحقيقاته -البريئة بما فيه الكفاية- في سياق أطروحته بجامعة كامبريدج، جعلته قريبًا جدًا من الرجال الذين يديرون لجان العمال التي أرهبت النظام.
في الواقع، لقد أجرى ريجيني العديد من اللقاءات مع هؤلاء الأشخاص، حيث عثر على بعض أشرطة الفيديو التي صورها لهم وهو يسألهم أسئلة عن الوضع في مصر في المقابل طلبوا منه الدعم الأجنبي لنقاباتهم. وهكذا، اختطفت الشرطة ريجيني ولم يتم رؤيته بعدها.
لم تقدم وزارة الخارجية البريطانية الشكوى إلا بعد أن تلقت 10 آلاف توقيع للاحتجاج من داخل المملكة المتحدة. ونحن جميعا نعرف الآن كم من التواقيع تُحسب للحكومات البريطانية. لكن الحكومة الإيطالية فجرت غضبها، مع العلم أن والدة ريجني لم تنشر صورا لابنها بعد وفاته لأن جروحه كانت فظيعة للغاية. لم تحرك السفارات الغربية في القاهرة، بما في ذلك البريطانيين، ساكنا حيال مقتل ريجيني على الرغم من أنها حصلت على اسم ضابط الشرطة المسؤول عن تعذيب ريجيني وقتله.
كان لمسرحية الممثلين المصريين هذا الأسبوع جذور تاريخية ودموية أكثر قتامة مما كنا نعتقد. لقد غاصوا في تاريخ غابر على الرغم من أنهم ما زالوا موجودين تحت درع سلطة الحكومة الحالية في مصر. وفي الحقيقة، قد يشكل اتحاد الممثلين المصريين مهزلة، لكن قوة العمال تشكل خطرًا دائمًا على أنظمة الشرق الأوسط.
يوما ما، سيكمل خلفاء ريجيني أعمال الدكتوراه ويكتبون أطروحاتهم الخاصة عن الصحوة العربية سنة 2011. ومن المحتمل أن تكون القصة مختلفة عن تلك التي كتبناها قبل ثمانية أعوام من ميدان التحرير. وفي الوقت نفسه، من المحتمل أن يكون بقاء كل من واكد ونجا في الخارج قرارا صائبا.