سؤال تلح قضية جمال خاشقجي في طرحه: إذا كان ولي العهد السعودي يتصرف هكذا فقط بعد ستة عشر شهرا من استلامه ولاية العهد، فما الذي سيحدث عندما يرتقي إلى العرش؟
ماذا كان آخر ما دار بخلد جمال خاشقجي عندما كان يُجر خارج مكتب القنصل العام السعودي في إسطنبول من قبل رجلين وأدرك أنه سار بقدميه إلى داخل مصيدة؟
لم يكن خاشقجي حديث عهد بهذه الأجواء، فقد كان يعلم كيف تعمل القنصليات والسفارات، فهو نفسه عمل مع اثنتين منهما: في واشنطن وفي لندن. لقد عرف الوحش، وعرف كيف يفكر وكيف يتصرف وكان يعرف رائحته جيدا.
وظن أنه كان على علم بالقواعد، فقد عمل لدى تركي الفيصل، والذي كان ذات يوم رئيسا للمخابرات السعودية.
كانت قواعد اللعبة غاية في القسوة، ولكنها كانت منطقية. كانت هناك خطوط حمراء واضحة إذا ما خبرتها فإنك ستكون في وضع يمكنك من تقدير المخاطر التي تجازف باتخاذها.
كان خاشقجي قد اشترى لتوه شقة في إسطنبول، وكان على وشك عقد قرانه في اليوم التالي، وكان هو وخطيبته ينتظران وصول الأثاث.
لربما ظن أن أسوأ ما كان يمكن أن يقع له هو أن يستجوبوه أو يعتقلوه. ولكن هل كان يجازف بتعريض نفسه للخطف، ناهيك عن أن يعرضها للموت، وكل ذلك مقابل ورقة تسمح له بالزواج من جديد في تركيا؟
أخبر أصدقاءه بأنه غادر المملكة لأنه لم يعد يحتمل فكرة أن يتعرض للسجن، وهذا بالضبط ما أشعره بواجبه الأخلاقي في أن يصدع بالحقيقة. فإذا كان هو يتمتع بالحرية بينما الآلاف من أقرانه يقبعون في السجون، فقد كان من واجبه أن يتكلم.
لابد أن خاشقجي أدرك في الثواني الأخيرة من حياته أنه لم يبق من هذه القواعد شيء قيد التطبيق بعد الآن.
إذا كان موت خاشقجي ضرب من الجنون فلابد أن رجلا مجنونا تماما هو الذي أمر بقتله. إنه رجل لا يحكم سلوكه شيء من المنطق، ولا يخضع لشيء من القواعد أو القيود. إنه رجل يتصرف دون خوف من مساءلة أو محاسبة، إنه رجل لا يأمن أحد على نفسه منه.
لقد غير الإعصار المدمر الذي أثاره مقتل خاشقجي خط سيره خلال الساعات الثماني والأربعين الماضية. فلم يعد يحوم فوق مضيق البوسفور في تركيا ولم يعد مجرد شجار لفظي بين بلدين هناك في أقصى الأرض في الشرق الأوسط (المملكة العربية السعودية وتركيا)، كلاهما بلا سجل ناصع البياض من حيث أسلوب معاملة الصحفيين.
مع انسياب المعلومات قطرة قطرة طوال الليل حول الطريقة التي تم فيها القتل – بما في ذلك هوية ركاب الطائرتين الخاصتين، ومنشار الحديد الذي استخدم لتقطيع أوصال جسد خاشقجي، وما نشرته أنا من معلومات حصرية حول طريقة جره خارج مكتب القنصل العام، والآن التسجيلات الصوتية والمرئية المرعبة لعملية استجواب ثم تعذيب ثم قتل خاشقجي، والتي أطلع الأتراك حلفاءهم الغربيين عليها – تطور الأمر إلى أزمة ضخمة تلقي بثقلها على كاهل البيت الأبيض والولايات المتحدة.
بدأت أبعاد هذه الأزمة للتو تلوح في الأفق. إن ما حصل عمل همجي ربما لم يخطر ببال تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) أن تقدم عليه. لقد تم اصطياد ضحية بريئة تماما، ضحية لها مقام مشهود.
لكن الجريمة لم تقترفها أيادي مهووسين باسم الدين، وإنما أمر بارتكابها أهم حليف عربي لأمريكا في الشرق الأوسط، داخل واحد من مقراته الدبلوماسية وباستخدام موارد الدولة.
ما فتئت الرياض تنفي مسؤوليتها عن جريمة القتل. وظل المسؤولون السعوديون ينفون بشدة أي دور لهم في اختفاء خاشقجي مصرين على أنه غادر القنصلية في إسطنبول بعد وقت قصير من وصوله إليها.
ولكنهم لم يتمكنوا من تقديم دليل يثبت ما زعموا، وقالوا إن كاميرات الفيديو داخل القنصلية لم تكن تسجل في تلك الأثناء.
وصل إعصار جمال بر فرجينيا، وهو الآن في طريقه إلى البيت الأبيض. صرح الرئيس الأميركي دونالد ترامب الليلة الماضية قائلا: «وقع هذا الشيء في تركيا وخاشقجي ليس مواطنا أمريكيا».
ولكن خاشقجي لم يعد حينها مجرد معارض سعودي، وواحدا من عديدين، بل كان قد أصبح مقيما في فرجينيا.
بدأت العاصفة تمزق كل ما يعترضها من مسلمات على طول بنسلفينيا أفنيو (الشارع الذي يوجد فيه البيت الأبيض)، بما في ذلك القول بأن ولي العهد محمد بن سلمان – والذي كان من بين حرسه الخاص بعض عناصر فرقة الاغتيال المكونة من خمسة عشر عنصرا – كان «رجلنا»، ومنها القول «لقد أوصلنا رجلنا إلى الذروة».
حيث كان ذلك ما قاله ترامب لأصدقائه بحسب ما ورد في الكتاب الذي ألفه وولف وصدر في وقت مبكر من هذا العام بعنوان «النار والغضب».
كما تبددت أيضا تلك الرومانسية الأخوية التي بدأها جاريد كوشنر، صهر ترامب ومساعده في البيت الأبيض، مع محمد بن سلمان، والتي تمخضت عن لقاءات بينهما كانت تستمر حتى الرابعة فجرا، تبادلا فيها الحكايات، ورسما فيها الاستراتيجيات (وكان محمد بن سلمان قد أخبر بعض ندمائه أن كوشنر ناقش معه أسماء السعوديين الذين لا يدينون بالولاء لولي العهد، رغم أن ناطقا باسم كوشنر نفى أن يكون قد صدر عنه شيء من ذلك).
لقد بات الدعم المطلق الذي منحه ترامب لولي العهد منذ اليوم الذي نُصب فيه رئيسا مصدر حرج وإزعاج، وكذلك تلك المقالات والتقارير التي انهمرت دونما خجل أو وجل في وسائل الإعلام الأمريكية تصف ولي العهد بأنه الإصلاحي الشاب.
كل ذلك عصفت به الرياح في ليلة واحدة، فلم تبق منه ولم تذر، مخلفة حطاما في كل مكان. تكاد وسائل الإعلام الأمريكية تشتغل غضبا.
جاء في تغريدة لمحررة مقالات خاشقجي في الواشنطن بوست كارين عطية: «يكفي الغرب تزلفا لولي العهد السعودي محمد بن سلمان. إنه ليس إصلاحيا، بل هو ولد مجنون غدا ملكا يتحكم بمقاليد الأمور في البلاد بينما هو أشبه بشخص يقود السيارة في حالة سكر شديد، بيده السلطة وأموال النفط. وبسببه يفقد الناس حياتهم.»
بدأ العظماء والنبلاء ينسحبون من مبادرة الاستثمار من أجل المستقبل، وهي عبارة عن مؤتمر استثماري كان من المقرر أن ينعقد في الرياض أواخر هذا الشهر.
بل جاء انسحابهم سريعا الواحد تلو الآخر كما لو أن طاعونا قد تفشى في الرياض. وكان من بين المنسحبين ريتشارد برانسون، وصحيفة نيويورك تايمز، ومحطة سي إن إن، والمدير التنفيذي في شركة أوبر للتقنيات دارا خوسروشاهي وكذلك بوب باكيش من مؤسسة فياكوم.
وتهب الرياح كذلك على كابيتول هيل، مقر الكونغرس في واشنطن. ويجري الآن الإعداد لتحرك مشترك بين أعضاء من الحزبين الديمقراطي والجمهوري في مجلس الشيوخ لفرض عقوبات على محمد بن سلمان بموجب قانون ماغنيتسكي (وهو التشريع الذي استخدم ضد المواطنين الروس المتورطين في جرائم خطيرة).
ويدفع السيناتور الجمهوري بول راند باتجاه تقليص التمويل والتدريب وغير ذلك من التنسيق الذي يجري مع الجيش السعودي «إلى أن يعاد خاشقجي حيا يرزق».
وفي تصريح لمحطة سي إن إن قال السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام: «لا تحتاج لأن تكون شيرلوك هولمز حتى تقلق هنا.»
إذا ما ثبت أن الحكومة السعودية هي من قام بذلك، وإذا كان ولي العهد مشاركا في ذلك بأي شكل من الأشكال، فسوف يدمر ذلك قدرته على قيادة هذا البلد على المسرح الدولي.
كما بدأت تتفكك تلك الشبكة المعقدة من جماعات الضغط الموالية للسعودية والإمارات في العاصمة الأمريكية، وهي شبكة تم إنشاؤها خصيصا لتنظيم وإدارة دخول محمد بن سلمان إلى المسرح الدولي.
خذ على سبيل المثال «ذي هاربر غروب»، وهي شركة تتخذ من واشنطن مقرا لها وظلت منذ شهر إبريل 2017 تقدم النصح والرأي للملكة العربية السعودية.
أعلنت الشركة يوم الخميس أنها أنهت تعاقدا لها مع المملكة بقيمة ثمانين ألف دولار. فقد صرح مديرها التنفيذي ريتشارد مينتز قائلا «لقد أنهينا العلاقة معهم.»
ومن المعروف أن مينتز وثيق الصلة بسفير الإمارات في واشنطن يوسف العتيبة، والذي طالما تصرف كما لو كان متعهد حفلات محمد بن سلمان في واشنطن.
بالعودة إلى تركيا، كان الرئيس رجب طيب أردوغان يستعد لاستقبال وفد عال المستوى يترأسه الأمير خالد الفيصل، أمير مكة والمستشار الخاص للملك.
ولا يفوت الفطين ملاحظة أنه أيضا الشقيق الأكبر للأمير تركي الفيصل، الرئيس السابق للمخابرات السعودية والسفير السابق للمملكة في كل من واشنطن ولندن، والذي كان جمال خاشقجي يعمل موظفا لديه.
تجري حاليا عملية تستهدف عزل الملك سلمان عن أي صلة بهذه الأحداث، وما التحقيق المشترك بين تركيا والحكومة التي ارتكبت هذه الجريمة الفظيعة إلا حكاية تورية ملائمة.
من خلال إطلاع حلفائها الغربيين الليلة الماضية على ما لديها من تسجيلات صوتية ومرئية للحظات المأساوية الأخيرة في حياة جمال خاشقجي تكون تركيا قد ضمنت نتيجة التحقيق قبل حتى أن يبدأ.
والسؤال الوحيد الذي يهيمن على عقول السعوديين الآن هو كيف يمكنهم عزل الملك الولد عن التداعيات المحتملة لما جرى.
ترامب هو الرجل الذي أوجد محمد بن سلمان وروج له ووجه السياسة الخارجية للولايات المتحدة بأسرها وبكامل ثقلها لصالحه وحمل المؤسسات العسكرية والأمنية على وضع ثقتها فيه.
وترامب هو الذي سمح لولي العهد بأن يتصرف كما لو كان محصنا من كل محاسبة أو مساءلة.
لابد أن سؤالا واحد يهيمن على تفكيره الآن، وهو: إذا كان محمد بن سلمان قادرا على أن يأمر بارتكاب مثل هذا العمل الفظيع وهي في سن الثالثة والثلاثين وفقط بعد ستة عشر شهرا من تنصيبه وليا للعهد، إذن ما هو الفعل الأرعن والجنوني الذي سيكون قادرا على الإتيان به عندما يصبح ملكا للبلاد التي يعود الفضل في قوتها ونفوذها في الخليج بل وفي المنطق بشكل عام إلى الجيش الأمريكي؟
لابد من تحقق ثلاثة أشياء حتى يصبح ولي العهد السعودي ملكا. أما الأول والأهم فهو موافقة البيت الأبيض عليه.
وأما الثاني فهو دعم العائلة المالكة له. ويأتي في المرتبة الثالثة وبدرجة أقل أهمية الرأي العام. أهم هذه الأشياء على الإطلاق هو موافقة البيت الأبيض. هذا هو الأمر الواقع.
ولكن ترامب لن يتدخل في مجريات العملية محليا فيما لو سحب موافقته على أن يصبح ولي العهد ملكا.
لم يعد أمام ترامب بعد الكشف عن محتويات التسجيلات الصوتية والمرئية سوى إجراء واحد ووحيد. لا يمكنه بعد الآن السماح لابن سلمان بأن يصعد إلى العرش.
هذا أقل ما يستحقه جمال خاشقجي والأعداد التي لا تحصى من الناس الذين قتلوا أو عذبوا أو سجنوا على أيدي زبانية النظام السعودي.