هاجم الصحفي والكاتب البريطاني المعروف ديفيد هيرست ولي العهد السعودي محمد بن سلمان على خلفية قضية اختفاء الإعلامي السعودي جمال خاشقجي بعد مراجعته للقنصلية السعودي في مدينة اسطنبول التركية الثلاثاء الماضي.
وأشار هيرست في مقال على موقع ميدل إيست آي البريطاني وترجمته “عربي21” إلى أن “خاشقجي تمسك بمبدأ واحد لم تحتمله منه بطانة محمد بن سلمان، ويتعلق هذا المبدأ بخصلة جلبت عليه مقتهم الشديد. كان خاشقجي نزيهاً مخلصاً، وكان يتعذر شراؤه، كان يعبر عما في خاطره، وكان واضحاً في ما يقول”.
ووصف الكاتب البريطاني ولي العهد السعودي بـ”الأرعن”، وقال: “كونه اختار القيام بحركته البهلوانية في إسطنبول، على الأراضي التركية، إنما يعبر عن مدى الرعونة التي يتصف بها ولي العهد السعودي، هو والبطانة المحيطة به”.
وعن موقف الحكومة التركية من الحادثة، يقول هيرست: “لو سمحت تركيا للحكومات الأجنبية بممارسة الخطف فوق أراضيها، فإن من شأن ذلك أن يعرض أمنها الداخلي للتدهور، وسيفقدها ذلك ما تتمتع به من نفوذ كبير في الشرق الأوسط من خلال توفير ملاذ آمن لعدد من جماعات المعارضة السنية”.
وتاليا نص المقال كاملا
إن جمال خاشقجي صديق لي، ولذلك ما أنا بصدد كتابته هنا تنقصه الموضوعية.
في الكثير من الحوارات التي جرت بيننا، ولزمن طويل منذ أن اختلف مع النظام الجديد في الرياض بقيادة ولي العهد محمد بن سلمان، نأى جمال خاشقجي بنفسه عن حمل صفة “المنشق السعودي”. بل إنه كان يعتبر نفسه موالياً، وابن المؤسسة، فهو صحفي وخبير مخضرم في السياسة الخارجية كان حتى وقت قريب ضمن دائرة الديوان الملكي، وكان في بعض الأوقات يسافر في معيتهم.
مقت شديد
بإمكاني أن أذكر العديد من الأمثلة على حالات اختلف فيها خاشقجي مع منتقدي المملكة من الليبراليين الغربيين الذي كان يتركهم قائلاً هذا فراق بيني وبينكم. وكان، على الأقل في بداية الأمر، قد أعلن عن دعمه للحرب التي تقودها السعودية في اليمن. فمثله في ذلك مثل العديد من المحللين العرب السنة، كان يظن أن إيران تمادت في توغلها داخل العالم العربي السني وأنه حان الوقت لأن تقوم المملكة العربية السعودية بصدها.
وكان من المدافعين عن عقوبة الإعدام، وأيد الحملة على الفساد – لو أمكن إقناعه بأنها حملة صادقة. كما أيد الجهود المبذولة لتنويع الموارد وخصخصة قطاع النفط حتى يصبح قطاعاً مستقلاً.
إلا أن خاشقجي تمسك بمبدأ واحد لم تحتمله منه بطانة محمد بن سلمان، ويتعلق هذا المبدأ بخصلة جلبت عليه مقتهم الشديد. كان خاشقجي نزيهاً مخلصاً، وكان يتعذر شراؤه، كان يعبر عما في خاطره، وكان واضحاً فيما يقول.
كان يرى بوجود طريق واحد يتوجب على المملكة أن تسلكه في القرن الحادي والعشرين – ألا وهو الانفتاح ببطء على ديمقراطية تترأسها ملكية دستورية تتراجع من المشهد بالتدريج.
كان يخشى من أن يتسبب ولي العهد في نهاية المطاف بإفلاس البلد بسبب مشاريعه النزوية الهادفة إلى إقامة مدن لامعة في الرمال – مدن مآلها أن تبقى خالية مهجورة. لقد أقر بأن محمد بن سلمان يتمتع بشعبية في أوساط الشباب، ولكنه قدر أن تلك الشعبية ستتلاشى عندما يفرض عليهم إخراج محافظ نقودهم وإفراغ ما فيها. ولفت هذا الصحفي السعودي الانتباه إلى التقارير التي كانت تتحدث عن هروب رؤوس الأموال إلى خارج البلاد.
ولي العهد الأرعن
كان انتقاد خاشقجي للسلطات في بلاده دقيقاً، ولهذا السبب وحده أعتبره إصلاحياً حقيقياً وديمقراطياً أصيلاً. وكونه قد مر عليه أكثر من أربعة وعشرين ساعة وهو معتقل داخل القنصلية السعودية في إسطنبول يفصح عن الكثير والكثير جداً من صفة ونوايا أولئك الذين يديرون المشهد في الرياض.
يبدد ذلك أسطورة العلاقات العامة الممولة جيداً، والتي ضمنت صحفيين مثل توماس فريدمان في نيويورك تايمز وزميل جمال في الواشنطن بوست دافيد إغناتيوس اللذين أشادا بمحمد بن سلمان كإصلاحي. وكان إغناتيوس قد كتب يقول إن ولي العهد السعودي يستخدم مع بلاده “العلاج بالصدمات”. لا أعتقد أن الصحيفة التي يكتب فيها تؤيد مثل هذا السلوك.
ما من شك في أن ما يفعله محمد بن سلمان صادم، ولكنه بصدماته تلك لا يعالج. بل هو شخص حقود، يندفع برغبة جامحة في الانتقام. إنه عنود لا يبالي بأحد ولا يحترم سيادة أي دولة أخرى على أراضيها، ولا يأبه بأية محاكم ولا بأي وسائل إعلام. إنه شخص أرعن. وكونه اختار القيام بحركته البهلوانية في إسطنبول، على الأراضي التركية، إنما يعبر عن مدى الرعونة التي يتصف بها ولي العهد السعودي، هو والبطانة المحيطة به.
لقد تدهورت العلاقات بين المملكة العربية السعودية وتركيا بشكل مستمر منذ المحاولة الانقلابية ضد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قبل عامين. كان واضحاً في أي جانب تقف وسائل الإعلام التي تديرها الدولة السعودية أثناء الليلة التي جرت فيها المحاولة الانقلابية. فقد تكرست كلها من أولها لآخرها لتغطية الحدث مشرعة أبوابها أمام المعلقين الذين كانوا يجزمون بأن أردوغان إما قتل أو هرب إلى الخارج.
وكانت نجاة أردوغان بالنسبة للرياض بمثابة الأخبار السيئة.
استغرقت وسائل إعلام الدولة السعودية ست عشرة ساعة لإدراك أن الانقلاب لم ينجح، وبعد ذلك فقط نشرت بياناً أعرب عن “ترحيب المملكة بعودة الأمور إلى نصابها بقيادة سيادة الرئيس طيب أردوغان وحكومته المنتخبة انسجاماً مع الشرعية الدستورية وإرادة الشعب التركي”.
زمن حرج
ما تزال تلك الذكريات حية، وخاصة لدى الرئاسة التركية. إن مجازفة محمد بن سلمان بدفع العلاقات السعودية مع تركيا إلى مزيد من التدهور من خلال اختطاف صحفي شهير على الأرض التي يحكمها أردوغان تشير إلى مدى ما يعيش فيه حاكم المملكة القادم من تقلب واضطراب.
وكما تعلم الرياض جيداً، فقد حصلت على القليل جداً مقابل الثلاثمائة مليون دولار التي دفعتها نقداً للسياسيين العراقيين من مختلف التوجهات والمذاهب الذين كانوا يتنافسون في الانتخابات الأخيرة. وتعلم كذلك أن تركيا وإيران تجريان محدثات على أعلى المستويات – وكذلك الحشد الشعبي والمجموعات السنية في العراق – حول الترتيبات الأمنية الجديدة في المناطق التي تصنف تقليدياً على أنها مناطق أهل السنة.
إنها المرة الأولى منذ سنوات عديدة التي تعاني فيها الفصائل الشيعية في العراق انقساماً حقيقياً والتي تتاح فيها الفرصة أمام إبرام صفقة سياسية لا تقوم على أساس طائفي. إنه زمن حرج بالنسبة للعلاقات السعودية التركية، وليس من مصلحة الرياض زعزعة “عربة التفاح” هكذا على الملأ وبشكل فظ كما يبدو أنها فعلت داخل القنصلية السعودية في إسطنبول.
تجزم المخابرات التركية بأن خاشقجي لا يزال داخل المبنى، ولذلك بادرت السلطات بفرض طوق أمني من حوله. إن من الأهمية بمكان أن تعمل تركيا على ضمان سلامة وحرية خاشقجي لأسباب تتجاوز الرجل ذاته وما بين البلدين من علاقات ثنائية رثة.
تركيا: ملاذ آمن
بالإضافة إلى أنها باتت ملاذاً لملايين اللاجئين السوريين، تؤوي تركيا الآلاف من المبعدين السياسيين من مختلف أنحاء العالم العربي.
لقد أصبحت إسطنبول مأوى تقريباً لكافة ألوان الطيف الذي تتشكل منه المعارضة المصرية، بعلمانييها وإسلامييها على حد سواء. وفي سجونها يقبع عدد من المتشددين الذين ولدوا ونشأوا في بريطانيا. ثمة الكثير مما يجري في إسطنبول، وهناك أكثر من حكومة غربية تحرص على بقاء الأمر على ما هو عليه.
فيما لو سمحت تركيا للحكومات الأجنبية بممارسة الخطف فوق أراضيها، فإن من شأن ذلك أن يعرض أمنها الداخلي للتدهور، وسيفقدها ذلك ما تتمتع به من نفوذ كبير في الشرق الأوسط من خلال توفير ملاذ آمن لعدد من جماعات المعارضة السنية.
ليس واضحاً بعد كم من الضغط سيكون وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو على استعداد لممارسته على نظيره السعودي عادل الجبيري بشأن قضية خاشقجي (الذي يملك حق الإقامة في الولايات المتحدة ويعتبر واحداً من كتاب الأعمدة في صحيفة الواشنطن بوست). ومن المعلوم أن البيت الأبيض ليس مغرماً بالواشنطن بوست ولا بحرية التعبير.
لا يتوانى ترامب من حين لآخر عن توجيه الإهانات لعاهل المملكة العربية السعودية الملك سلمان ليجبره على دفع المزيد من المال مقابل ضمان أمنه إضافة لما دفعه من أموال حتى الآن.
بتلع النظام الحاكم في المملكة العربية السعودية هذه الإهانات الواردة من ترامب لعلمه بأنه لا يوجد لديه خيار آخر، وذلك على الرغم من أنه يذهب إلى أقصى مدى في الاتجاه المعاكس حين يتعامل مع الدول التي يعتبرها أقل شأناً مثل كندا.
كان خاشقجي أول من حذر السعوديين من مغبة الاقتراب الشديد منترامب. والحقيقة أن ذلك كان السبب الحقيقي في نشوب خلاف بينه وبين النظام السعودي بادئ ذي بدء، ولقد حصل ذلك قبل وقت طويل من انعقاد القمة الإسلامية الأمريكية في الرياض في شهر مايو من العام الماضي والإعلان فيها عن صفقات السلاح الكبيرة بين البلدين. ونظراً لأن الرياض فاتها أن تنتصح بما أشار به عليها الصحفي خاشقجي فقد سعت بكل ما أوتيت من قوة لإسكاته.
ينبغي ألا يسمح للسعوديين بالنجاح في ذلك، ولأكثر من سبب.