تناول الصحفي البريطاني جوناثان كوك في مقال له، ما أطلق عليها «الآثار العكسية الحتمية» لهجمات اللوبي الإسرائيلي التي لا تتوقف ضد رئيس المعارضة البرلمانية جيريمي كوربين.
وتحدث كوك في مقال نشره في موقع «ميدل إيست آي»، عن الحملة المكثفة التي يشنها اللوبي الإسرائيلي في بريطانيا ضد كوربين، لافتا إلى أنها «بدأت في التسبب بالضبط بمثل هذه العواقب المؤذية لمن يقوم عليها».
وفي ما يأتي نص المقال كاملا:
في خمسينيات القرن الماضي صاغت أوساط المخابرات الأمريكية مصطلح «الارتداد الغازي»، والذي يقصد به العواقب غير المقصودة لعملية سرية انتهت بالإضرار بقضية صاحبها.
هناك كم متراكم من المؤشرات على أن الحملة المكثفة التي يشنها اللوبي الإسرائيلي في بريطانيا ضد جيريمي كوربين، رئيس المعارضة البرلمانية، قد بدأت في التسبب بالضبط بمثل هذه العواقب المؤذية لمن يقوم عليها.
حملة تشهير
لم يلبث جيريمي كوربين خلال السنوات الثلاث الماضية، أي منذ انتخابه زعيما لحزب العمال، يواجه اتهامات لا تتوقف بأن حزبه يعاني من وجود “مشكلة معاداة للسامية” باتت تستشري في جسد الحزب، وذلك على الرغم من أن كل الأدلة تثبت عكس ذلك. ومؤخرا، راحت السهام توجه بشكل مباشر نحو كوربين نفسه متهمة إياه بنفس المزاعم.
وفي الأسبوع الماضي تزعمت صحيفة ذي ديلي ميل حملة إعلامية شرسة ضد كوربين بشأن تعليقات مهينة صدرت عنه في عام 2013 حول مجموعة صغيرة من أنصار إسرائيل المندفعين الذين جاءوا لتخريب لقاء نُظم للتضامن مع الفلسطينيين. يزعم ناقدوه أن إشارته إلى تلك المجموعة بأنهم “صهاينة” إنما كان يقصد بها اليهود، ولذلك السبب فقد كان معاديا للسامية.
هناك كم متزايد من الأدلة في بريطانيا وفي الولايات المتحدة، حيث تشهد البلدان تصاعدا متشابها في عدد الهجمات التي تشن على النشطاء المؤيدين لفلسطين وخاصة ممن لهم علاقة بحركة المقاطعة العالمية (بي دي إس)، على أن الحكومة الإسرائيلية تعلب دورا كبيرا، ولو بشكل سري، في تنسيق وإدارة مثل هذه الجهود لتلطيخ سمعة الشخصيات البارزة المنتقدة لها.
في هذه الأثناء قال أنصار كوربين إنه يتعرض لحملة من التشهير للإطاحة به من زعامة حزب العمال بسبب ما تبناه على مدى عقود من مواقف معلنة مؤيدة للقضية الفلسطينية.
نشطاء اللوبي الإسرائيلي
كانت قناة الجزيرة قد أنتجت سلسلتين منفصلتين من البرامج الوثائقية حول جهود نشطاء اللوبي الإسرائيلي في بريطانيا والولايات المتحدة للتدخل في سياسات كل واحد من البلدين – لربما في انتهاك صارخ للقوانين المحلية، ولكن لم تبث القناة سوى السلسلة الخاصة ببريطانيا من تلك البرامج.
ظهر في تلك السلسلة شاي ماسوت، المسؤول في السفارة الإسرائيلية بلندن، وهو يخطط للإطاحة بوزير في حكومة المحافظين لأنه يعتبر متعاطفاً مع القضية الفلسطينية ويقوم في نفس الوقت بالمساعدة في إيجاد منظمة واجهة مناهضة لكوربين داخل حزب العمال.
عمل ماسوت عن كثب مع مجموعتين مهمتين تناصران إسرائيل داخل حزب العمال، حركة العمال اليهودية وأصدقاء إسرائيل في حزب العمال، علماً بأن الأخيرة تشتمل على ما يقرب من ثمانين نائباً عماليا.
وبسبب ضغوط مارسها اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة فقد تراجعت الجزيرة عن بث السلسلة الخاصة باللوبي الإسرائيلي في أمريكا.
وهذا الأسبوع نشر ألان غريش، المحرر السابق لصحيفة لوموند ديبلوماتيك، مقتطفات لا بأس بها مما ورد في السلسلة الممنوعة من أقوال، وذلك بعد أن أتيحت له فرصة مشاهدة السلسلة سراً في دبي. كتب غريش يقول إن أهداف وممارسات اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة ما هي في المجمل إلا صدى لما حدث في بريطانيا لكوربين، حيث ما فتئ يواجه وبشكل لا هوادة فيه مزاعم تتهمه بمعاداة السامية.
وذكر في تقريره أن الوثائقي الخاص باللوبي في أمريكا يثبت بوضوح أن وزارة الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلية تلعب دورا رياديا في إدارة جهود اللوبي الإسرائيلي في أمريكا. وطبقا لما ذكره غريش فقد صُور عدد من كبار أعضاء اللوبي سرا وهم يعترفون بأنهم أقاموا شبكة من الجواسيس لجمع المعلومات عن منتقدي إسرائيل البارزين في الولايات المتحدة.
يرد في المقتطفات التي دونها غريش تصريح لشخص اسمه جيكوب بايم، مدير تحالف إسرائيل داخل الجامعات، وهي مجموعة من المنظمات التي تحارب بي دي إس، يقول بايم فيه: «عندما وصلت إلى هناك قبل بضعة أعوام كانت الميزانية ثلاثة آلاف دولار، أما اليوم فهي تقريباً مليون ونصف المليون دولار أو أكثر…. إنها ميزانية ضخمة».
وفي معرض شرحه لكيفية إضرار التشهير بالمجموعات المستهدفة، يضيف قائلا: «إنها حرب نفسية. فإما أن يوقفوا نشاطاتهم أو أنهم يقضون الوقت في التحقيق (في التهم الموجهة ضدهم) بدلا من قضائه في مهاجمة إسرائيل. وهي وسيلة فاعلة جدا».
أما دافيد هازوني، العضو المخضرم في مجموعة لوبي أخرى اسمها «مشروع إسرائيل» فيبين أن الهدف الملح هو الحد من الخطاب السياسي الناقد لإسرائيل، ويقول: “المشكلة الأكبر هي الحزب الديمقراطي، جماعة بيرني ساندرز، الذين يجلبون كل الناس المعادين لإسرائيل إلى داخل الحزب الديمقراطي. بعد ذلك تتراجع مناصرة إسرائيل كقضية يجمع عليها الحزبان، ثم بعد ذلك كلما تغير البيت الأبيض تتغير السياسات تجاه إسرائيل، ويصبح ذلك أمرا بالغ الخطورة على إسرائيل”.
بلا نقاش
تؤكد هذه الأقوال المنقولة كثيراً مما كان موضعا للريبة من قبل. قبل ما يزيد عن عقد من الزمن ألف العالمان جون ميرشايمر وستيف والت كتابا يتحرى تركيبة ودور اللوبي القوي المؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة.
ولكن إلى أن بثت قناة الجزيرة برنامجها الوثائقي في العام الماضي لم يكن قد بذل جهد مشابه بهدف تسليط الضوء على الوضع في بريطانيا، وفي الواقع لم يكن يوجد تقريبا أي نقاش أو حتى إقرار بدور يقوم به لوبي مناصر لإسرائيل في الحياة البريطانية العامة والسياسية.
والآن يشهد الوضع تغيرا سريعا. فمن خلال الهجمات المستمرة على كوربين، تجلت صورة النشطاء البريطانيين، وبدت أبعد عن كونهم مجرد أفراد متفرقين يتعاطفون مع إسرائيل وأقرب إلى كونهم لوبيا شبيها بذلك الذي ينشط داخل الولايات المتحدة – على درجة عالية من التنظيم، يتحرك جماعيا بمجرد تلقيه للتوجيهات، وعلى أهبة الاستعداد لأن يلقي بثقله حيث يطلب منه.
بالطبع، كان اللوبي موجودا طوال الوقت، وكما هو الحال في الولايات المتحدة، يحظى بدائرة أوسع بكثير من الدعم مقارنة بالمنظمات القيادية اليهودية يمينية التوجه مثل «مجلس المندوبين» أو «مجلس الزعامة اليهودية» أو الجماعات المتشددة التي تمارس الضغط السياسي مثل “أمانة أمن الجالية” ومنظمة بايكوم.
الصهاينة الأوائل
لا ينبغي أن يفاجئنا ذلك. لم يكن الصهاينة الأوائل يهودا بل كانوا مسيحيين أصوليين. تتكون أكبر مجموعة من الصهاينة داخل الولايات المتحدة من المسيحيين التبشيريين الذين يعتقدون بأن عودة اليهود إلى أرض الميعاد هي الخطوة التي تؤذن بعودة المسيح الثانية وببدء الأحداث الجسام التي سيشهدها آخر الزمان. وعلى الرغم من أن إسرائيل تحتضنهم وترحب بهم إلا أن الكثيرين من هؤلاء الأصوليين المسيحيين يحملون آراء معادية للسامية.
في بريطانيا، هناك إرث يقر بوجوده الجميع يتمثل في الدعم المسيحي المعادي للسامية والداعم للصهيونية في نفس الوقت. خذ على سبيل المثال اللورد بلفور، الذي كان مسيحيا متدينا وكانت تصدر عنه بشكل منتظم عبارات عنصرية ضد اليهود، إلا أنه كان الرجل الذي أعلن عن التزام الحكومة البريطانية في عام 1917 بإقامة وطن لليهود في فلسطين، وكان ذلك الوعد هو البذرة التي أنبتت الصراع المستمر حتى اليوم بين إسرائيل وسكان البلاد الأصليين من الفلسطينيين.
بالإضافة إلى ذلك، هناك الكثير من البريطانيين الأغيار (غير اليهود)، مثلهم في ذلك مثل الأوروبيين الآخرين، الذين يعيشون وهم يحملون على عاتقهم شعورا متفهما بالذنب إزاء الهولوكوست (المحرقة).
من أكبر المجموعات وأكثرها فعالية داخل كتلة حزب كوربين في البرلمان هي جمعية أصدقاء إسرائيل في حزب العمال، علماً بأن معظم أعضائها ليسوا من اليهود. تنظم جمعية أصدقاء إسرائيل في حزب العمال رحلات إلى إسرائيل مدفوعة التكاليف بالكامل لكبار الشخصيات السياسية في الحزب حيث يستقبلون بحفاوة وينعمون بكرم الضيافة بينما يمطرون بوابل من الدعاية الإسرائيلية.
ظل العشرات من أعضاء حزب العمال في البرلمان على ولائهم لجمعية أصدقاء إسرائيل في حزب العمال حتى حينما رفضت المنظمة مراراً وتكراراً انتقاد إسرائيل على ارتكابها ما كان دون أدنى شك جرائم حرب.
فعندما أعدم القناصة الإسرائيليون العشرات من المتظاهرين غير المسلحين في غزة في شهر مايو/ أيار، وجهت جمعية أصدقاء إسرائيل في حزب العمال عبر تويتر اللوم لحركة حماس محملة إياها وليس إسرائيل المسؤولية عن موتهم. لكن ما لبثت الجمعية بعد تعرضها لهجوم كاسح على ما فعلته أن حذفت التغريدة، واكتفت بذلك.
ضربة مزدوجة
تاريخياً كان بإمكان اللوبي الإسرائيلي البقاء بعيداً عن الأضواء داخل بريطانيا لأنه لم يواجه الكثير من العوائق أو التحديات، وذلك أن دوره تمثل بشكل رئيسي في ضمان التقيد بسياسة تقليدية حول إسرائيل تكون منسجمة مع الدور بريطانيا كشريك أصغر للسياسة الخارجية التي تنتهجها واشنطن. لم يكن واردا أن يجرؤ زعيم بريطاني على الشطط بعيدا عن الإجماع في واشنطن. إلى أن جاء كوربين. بعدها، أصبح اللوبي الإسرائيلي في بريطانيا يواجه ضربة مزدوجة.
أولا، منذ أن دخل دونالد ترامب البيت الأبيض، أسقط رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو كل تظاهر بأن إسرائيل على استعداد للقبول بدولة فلسطينية مهما فعل الفلسطينيون. بل قامت إسرائيل بدلاً من ذلك بعزل القيادة الفلسطينية دبلوماسياً بينما سعت إلى إرهاب الفلسطينيين لحملهم على الخضوع المطلق لإرادتها.
ولقد تجلى ذلك بوضوح شديد خلال الصيف عندما كان القناصة الإسرائيليون يتصيدون المتظاهرين كل أسبوع داخل غزة. ونتيجة لذلك وقف اللوبي الإسرائيلي مكشوفاً في العراء كما لم ينكشف من قبل. فلم يعد بإمكانه شراء المزيد من الوقت لصالح التوسع الإسرائيلي والزعم كما كان يفعل من قبل ويصدقه البعض بأن إسرائيل تريد السلام.
ثانياً، لقد بوغت أنصار إسرائيل في بريطانيا وأخذوا على حين غرة بالصعود غير المتوقع لجيريمي كوربين إلى موقع يؤهله في المستقبل المنظور لأن يصبح رئيس وزراء بريطانيا القادم. في هذه الأثناء تمكن أنصاره من خلال اللجوء إلى مواقع التواصل الاجتماعي من معارضة ومقارعة حملة التشويه والشيطنة التي يتعرض لها وتعمل وسائل الإعلام البريطانية على تضخيمها.
بالطبع لم تدخر وسائل الإعلام جهداً في المساعدة على تلطيخ سمعة زعيم حزب العمال لأن لكل واحدة منها مصالحها الخاصة في رؤية كوربين يسقط من موقعه، وذلك لما يشكله من تهديد على المصالح التجارية الاحتكارية التي تمثلها.
ولكن لم يتوقف الأمر عند وقوع حامل الرسالة – أي اللوبي الإسرائيلي – تحت الفحص الدقيق للمرة الأولى، بل والرسالة ذاتها أيضاً.
السخرية الإنجليزية
اعتمد نجاح اللوبي ليس فقط على بقائه في الظل إلى حد بعيد، فقد توقع أن يتمكن من خلق بيئة مناصرة بشكل كبير لإسرائيل دون أن يلفت الانتباه إلى ما يتم الدعوة إليه أو الدفاع عنه، سوى التفوه ببعض العبارات المختصرة التي لا يثير أحد شيئاً من التساؤل بشأنها. ومن خلال ذلك، تمكن اللوبي من تجاهل أولئك الذين تكبدوا ثمن إفلات إسرائيل من المحاسبة والمساءلة على أفعالها – أي الشعب الفلسطيني.
لم تجبر الحملة على كوربين اللوبي فقط على الخروج إلى العلن والانكشاف أمام القاصي والداني، بل اضطر أيضاً بسبب ردة الفعل على حملته إلى الحديث بعبارات واضحة وضوح الشمس ولأول مرة عما يؤمن به بالضبط وعما يراهن عليه.
كانت أول ضجة افتعلت حول كوربين تتعلق بمقطع فيديو على اليوتيوب يظهر فيه وهو يتحدث في اجتماع مناصر للفلسطينيين في عام 2013، أي قبل عامين من وصوله إلى زعامة حزب العمال. لقد نددت به وسائل الإعلام على نطاق واسع لما اعتبر تصريحاً مهيناً صادراً عنه حول مجموعة صغيرة من أنصار إسرائيل المتشددين الذين اشتهروا بالدخول إلى مثل هذه اللقاءات لتخريبها أو التشويش عليها.
وكان كوربين قد أشار إليهم بعبارة «”الصهاينة»” موضحاً أن رد فعل هذه المجموعة المتشددة بالذات على خطاب ألقاه السفير البريطاني يظهر عدم تقديرهم لما قال إنه «السخرية الإنجليزية».
علق اللوبي الصهيوني، وعبر عن ذلك التعليق العديد من الصحفيين الليبراليين، بالقول إن كوربين إنما استخدم كلمة “صهاينة” عوضاً عن كلمة «يهود»، وأنه أراد القول بأن جميع اليهود – وليس فقط الحفنة من أنصار إسرائيل المتحمسين الذين جاءوا إلى الاجتماع – تنعدم لديهم الخصال الإنجليزية.
وقالوا إن ذلك يقدم دليلا إضافيا على معاداته للسامية.
قال كبير حاخامات بريطانيا السابق جوناثان ساكس في تصريح لمجلة نيوستاتسمان هذا الأسبوع إن تصريح كوربين كان “التصريح الأكثر إساءة الذي يصدر عن سياسي بريطاني كبير منذ خطبة «أنهار الدم» التي ألقاها إنوخ باويل في عام 1968. كان ذلك السياسي اليميني يسعى من خلال خطبته سيئة الصيت إلى التحريض على الكراهية العنصرية ضد المهاجرين.
مضى ساكس، الذي نعت كوربين بالمعادي للسامية، ليقول: «إن اعتبار فئة كبيرة من المواطنين البريطانيين غرباء من شأنه أن يقوض وجودهم».
كلمات غدارة
في نمط بات الآن مألوفا بالنسبة لما يزعمه نشطاء اللوبي الإسرائيلي، اعتمد ساكس على الفرضية الخاطئة التي تقول إن جميع اليهود صهاينة، وعمد إلى دمج ضرب من الانتماء الديني أو العرقي في عقيدة سياسية فباتا بالنسبة له شيئا واحدا. ظل الزعيم العمالي هذه المرة مصرا على موقفه ولم يتزحزح، مشيراً إلى أنه كان يستخدم المصطلح “بما له من دلالة سياسية صحيحة ودقيقة وليس كناية عن الشعب اليهودي”.
وأشار آخرون إلى أن النفر الذين وجهوا إليه سهام الاتهام – وكثيرون منهم من كبار الصحفيين – هم الذين انعدم لديهم الإحساس بالمفارقة الساخرة. لم يكن كوربين يقصد اعتبار اليهود ضمن “الآخر”، بل كان يشير إلى حالة من التناقض دون إقرار أي تحيز، وخلاصة ما قصد هو أن مجموعة صغيرة من البريطانيين كانوا غاية في الانغماس في الانتصار لقضيتهم، التي هي إسرائيل، لدرجة أعمتهم عن فهم “السخرية الإنجليزية” التي كان شخص أجنبي، هو السفير الفلسطيني، يستخدمها في خطابه.
على كل حال، قد تثبت الأيام أن مصطلحات «معاداة السامية» و «الصهيونية» أشد غدراً مما يظن أصحاب اللوبي حينما يستخدمونها ضد كوربين. وبينما تبقى القضية الخلافية الخاصة بمعاداة السامية قيد الإشعال بشكل مستمر، تبرز صورة أوضح للمنطق الذي يقصده اللوبي، كما بات واضحاً من لغة الإطناب المغرق التي لجأ إليها الحاخام ساكس، والتي توشك أن تعبر عن حالة من الهوس.
والحجة التي يتذرعون بها تنص على أن إسرائيل هي الملاذ الوحيد لليهود الذين يأمن فيه اليهود على أنفسهم في أزمنة المتاعب – والشيء الوحيد الذي يحول بينهم وبين أن تنصب لهم محرقة أخرى في المستقبل. صحيح أن الحركة التي أقامت إسرائيل هي الحركة الصهيونية، إلا أن معظم اليهود اليوم باتوا صهاينة، وهم يعتقدون بأن إسرائيل تقع في القلب من الهوية التي ينتمون إليها. ولذلك، إذا ما بالغت في نقد إسرائيل أو الصهيونية فكأنما تتمنى حدوث ما هو سيء للشعب اليهودي، وهذا يجعلك من المعادين للسامية.
مقدمات إشكالية
لربما لا يحتاج المرء إلى عالم في المنطق ليكشف له عن وجود عدد من المقدمات الإشكالية والفرضيات الواهية في الأساس الذي ترتكز عليه هذه الحجة. دعونا نركز على اثنتين منها. أما الأولى فتعتمد على رؤية كونية يُعتبر غير اليهودي بموجبها معاد للسامية إلى أن يثبت العكس. ويترتب على ذلك أن يكون اليهود في حاجة دائمة للانتباه والحذر ممن هم خارج “قبيلتهم” بل ويتوجب عليهم عدم الثقة بهم.
إذا بدا ذلك للوهلة الأولى مستبعداً فلا ينبغي أن يكون كذلك، فهذا بالضبط هو الدرس الذي يتعلمه الأطفال في إسرائيل عن المحرقة ابتداءً من الروضة فصاعداً.
لا تستمد إسرائيل رسالة كونية من المحرقة، فمدارسها لا تدرس أنه ينبغي علينا تجنب وصم الآخرين وأنه علينا صد الآخرين عن التمييز على أساس طائفي وقبلي لأن مثل هذا التمييز من شأنه أن يشعل نيران التحيز والتحامل والتعصب. ولكن أنى ذلك؟ فإسرائيل في نهاية المطاف تقوم على عقيدة الصهيونية السياسية والتي تنبع من فكرة التمايز والتفرد القبلي والطائفي – فكرة «تجميع المنفيين» لإقامة دولة يهودية.
في إسرائيل يستخلص الناس من المحرقة درساً مختلفاً تماماً، مفاده أن اليهود يعيشون تحت التهديد الدائم من قبل غير اليهود، وأن دفاعهم الوحيد يتمثل في الحصول على حماية جماعية في دولة شديدة العسكرة والتحصين، دولة تملك أسلحة نووية.
إنها الفكرة التي عبر عنها الجنرال الإسرائيلي الراحل موشيه دايان بقولته المشهورة: «ينبغي أن يرى الناس في إسرائيل كلباً مجنوناً غاية في الخطورة بحيث يخشون على أنفسهم من إزعاجه أو العبث به».
فيروس معولم
ما فتئت رؤية إسرائيل القبلية القبيحة للتاريخ، والتي تخدمها ذاتياً، تنتشر ببطء في أوساط اليهود في أوروبا والولايات المتحدة.
قبل خمسة عشر عاما، نشر العالم الأمريكي دانيال جيه غولدهاجين مقالاً مهماً في المطبوعة اليهودية الأسبوعية «فوروارد» تحت عنوان «عولمة معاداة السامية»، قال فيه إن معاداة السامية عبارة عن فيروس يمكن أن يبقى خامداً لفترات من الزمن لكن سيجد باستمرار طرقاً جديدة لإصابة من يستوطن فيه بالعدوى.
وكتب غولدهاجين يقول: «أصبحت معاداة السامية المعولمة جزءاً من البنية التحتية للانحياز والتحامل والتشيع في العالم. وباتت دولية بلا هوادة في تركيزها على إسرائيل في القلب من منطقة يعصف بها الصراع الأشد في عالمنا اليوم».
باتت هذه النظرية تعرف أيضا باسم «معاداة السامية الجديدة»، وهي تعبير عن كراهية لليهود يصعب بشدة تحديدها أو تعريفها مقارنة بمعاداة السامية القديمة التي كانت تصدر عن اليمين المتطرف. ومن خلال المرور بطفرة ما، تمكنت معاداة السامية الجديدة من إخفاء كراهيتها لليهود بحيث تبدو مركزة على إسرائيل بينما تدثر برداء المعسكر اليساري.
لا عجب إذن أن تكون التصريحات الأخيرة للحاخام ساكس حول كوربين قريبة مما ورد في مقال له نشره في عام 2016 قال فيه: «معاداة السامية عبارة عن فيروس يبقى على قيد الحياة من خلال التحول عبر طفرة».
وفي مؤشر على الكيفية التي تحول من خلالها هذا النوع من جنون الارتياب ببطء ليصبح أمرا طبيعيا في أوروبا أيضا، نشرت صحيفة الغارديان البريطانية مقال رأي لصحفية بريطانية هذا الشهر تشرح فيه لماذا قررت، على الطريقة الإسرائيلية، تدريس ابنتها التي تبلغ من العمر ثلاثة أعوام عن المحرقة ومعاداة السامية، أملا في أن يعد ذلك التعليم طفلتها لما قد يأتي من تطورات في المستقبل كأن يصبح كوربين رئيسا للوزراء.
إلا أن التبني المتزايد لعقيدة إسرائيل القبلية من قبل قطاعات داخل الجالية اليهودية البريطانية – وما يرتبط بذلك من تسليح لمعاداة السامية – من شأنه أن يسلط مزيداً من الضوء على ما بات متشددو الصهاينة يعتبرونه جوهر هويتهم.
والمفارقة هنا أن معاداة السامية الجديدة تقلب الطاولة من خلال شرعنة العنصرية اليهودية تجاه الأغيار، أو في حقيقة الأمر اعتبار تلك العنصرية أمرا ضروريا. وبدلا من أن يكون كوربين هو الذي يصم اليهود – فيما عدا ما يدور في مخيلة البعض – فإن اللوبي المناصر لإسرائيل هو الذي يصم غير اليهود من خلال اعتبارهم جميعاً مجبولين على كراهية اليهود سواء أدركوا ذلك أم لم يدركوه.
وكلما أمعن اللوبي في إثارة الهستيريا حول ما يتهمون به كوربين من معاداة للسامية كلما بات أكثر وضوحاً أن اللوبي يعتبر جل الجمهور غير اليهودي متهماً بذلك أيضاً.
تغييب الفلسطينيين
والثغرة الأخرى الواضحة في منطق اللوبي هي أن هذا المنطق لا يعمل إلا حينما نلغي تماما وجود الفلسطينيين في حكاية الصهيونية وإسرائيل. لربما بدت فكرة وجود صهيونية خالية من أي إضرار ذات مصداقية فيما لو أمكن إقامة دولة يهودية على قطعة خالية من الأرض، كما ادعى الصهاينة الأوائل حينما صوروا فلسطين أرضا بلا شعب. لكن في واقع الأمر، كانت فلسطين مأهولة بعدد كبير من الناس كان لابد من اقتلاعهم من أرضهم بادئ ذي بدء.
كانت إقامة إسرائيل كدولة يهودية في عام 1948 ممكنة فقط فيما لو اتخذت الحركة الصهيونية خطوتين كلاهما تنتهكان المفاهيم المعاصرة لحقوق الإنسان وقواعد الممارسة الديمقراطية الليبرالية. كان على إسرائيل أولا أن تقوم بعملية تطهير عرقي على نطاق واسع، مما أجبر ثمانين بالمائة من الفلسطينيين، سكان البلاد الأصليين، على الهجرة إلى خارج حدود الدولة اليهودية التي أقامتها الحركة الصهيونية في وطن الفلسطينيين.
ثم، كان لزاماً عليها أن تنكر أن من تبقى من مجتمع فلسطيني صغير داخل إسرائيل له نفس الحقوق مثله في ذلك مثل اليهود الإسرائيليين، بل كان عليها أن تحاصرهم في غيتوات (أحياء مغلقة خاصة بهم) وتمنعهم من جلب أقربائهم الذين طردوا وإعادتهم إلى بيوتهم.
لم تكن تلك خيارات تعيسة لسياسيين إسرائيليين معطوبين، بل كانت خطوات أساسية لا مفر منها إذا ما أريد للمشروع الصهيوني أن ينجح في إقامة وحماية الدولة اليهودية. حتى وقت قريب، لم يكن النقاش العام «الشرعي» يتضمن أي تطرق لهذين الموضوعين: التطهير العرقي الذي حدث في عام 1948 والعنصرية البنيوية التي تقوم عليها الدولة اليهودية.
لكن هذا الوضع يتغير الآن، أولاً لأنه لم يعد سهلاً إخفاء طبيعة دولة إسرائيل، وما يصدر عنها من سلوك مؤذ لذاتها قبل أي شيء، والذي يشمل على سبيل المثال قرارها الأخير الإعلان عن العنصرية المؤسسية للدولة من خلال إجازة القانون الأساسي حول الدولة القومية في الشهر الماضي. ما يفعله ذلك القانون هو أنه يمنح ثقلاً دستورياً لإنكار الحقوق المتساوية لخمس سكان إسرائيل، وهم المواطنون الفلسطينيون فيها.
تمثل الهجمة على كوربين وعلى غيره من النشطاء المتضامنين مع فلسطين دليلاً على مخاوف اللوبي من أنه لم يعد قادراً على الصمود أمام الإدراك المتنامي في أوساط الجماهير الغربية بأن نجاح الصهيونية لم يكن بلا ثمن.
هذا الثمن دفعه الفلسطينيون، ولم تجر حتى الآن محاسبة تاريخية على ما تعرضوا له من معاناة. من خلال إخفاء السجل التاريخي، تمكنت إسرائيل وكذلك الحركة الصهيونية من تجنب الخضوع لعملية تشبه ما يسمى بإجراءات «الحقيقة والمصالحة» التي تمخضت عن إنهاء الأبارتهايد (الفصل العنصري) في جنوب أفريقيا. مازال اللوبي يفضل استمرار النموذج الإسرائيلي من ذلك الأبارتهايد.
ضياع البوصلة الأخلاقية
لئن كان ثمة شخص يتجسد فيه ضياع البوصلة الأخلاقية ضمن تسلح معاداة السامية ضد كوربين ومنتقدي إسرائيل فإن ذلك الشخص هو الحاخام ساكس.
حينما سألته مجلة ذي نيو ستيتسمان حول رأيه في القانون الجديد المتعلق بالدولة القومية، فجأة أضحى الجهبذ ساكس تائهاً يبحث عن الكلام فلا يجده. أراد تحويل السؤال إلى صديق للحصول على إجابة، وفي حالته هذه صديقه هو شقيقه، حيث قال للمجلة: “لست خبيراً في هذا الموضوع، بينما شقيقي هو الخبير. أما أنا فلا. شقيقي محامي يعيش في القدس. وقد أخبرني أنه لا يوجد على الإطلاق شيء من الأبارتهايد في ذلك، كل ما هنالك هو أنه سعي لإصلاح ثغرة … وحسبما أفهم، إنها عملية تقنية بحتة، ولا يوجد بها شيء من المضامين التي وجهت ضدها”.
يبدو أن ساكس لا يملك القدرة على التعرف على الأبارتهايد حتى وهو ماثل أمامه طالما أنه متخف في عباءة «يهودية». وهو في نفس الوقت أعمى عن رؤية تاريخ الصهيونية والتشريد الجماعي الذي تعرض له الفلسطينيون في نكبة عام 1948.
فلقد أخبر مجلة ذي نيو ستيتسمان بما يلي: “لم يكن اليهود يرغبون في العودة إلى أرضهم (فلسطين) والتسبب في معاناة شعب آخر (الفلسطيني)، وهذا أمر مستقر في أعماق القلب اليهودي. لكن يبدو أنه لم يكن بذلك العمق حتى يتمكن ساكس من التعرف على الذين عانوا من أجل أن تصبح «العودة» اليهودية ممكنة.
في معرض نقده لمقالة ساكس الطويلة التي نشرت عام 2016، يقول المعلق اليهودي اللبرالي بيتر بينارت إن الحاخام لم يذكر الفلسطينيين بالاسم إلا مرة واحدة.
ووبخ بينارت الحاخام على مساواته ما بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية، وقال: “من خلال إنكاره أن يكون لدى الفلسطينيين سبب سوى التعصب يجعلهم يكرهون الصهيونية فإنه ينكر ما مروا به من تجربة تاريخية ويحولهم إلى مجرد أوعية تنتقل خلالها الكراهية لليهود، وذلك يفعل بالفلسطينيين تماماً ما تفعله معاداة السامية باليهود، إنه يجردهم من إنسانيتهم”.
عالم مقلوب رأساً على عقب
لو لم يكن العالم مقلوباً رأساً على عقب، لكان ساكس واللوبي الإسرائيلي هم من يتعرضون للتوبيخ أمام الملأ على عنصريتهم. إلا أن كوربين هو الذي يتعرض للشيطنة بدلاً من ذلك من قبل طيف واسع ممن يفترض فيهم أنهم أصحاب رأي وعلم في المملكة المتحدة – من اليهود وغير اليهود على حد سواء – وما ذلك إلا لتضامنه مع الفلسطينيين.
بمعنى آخر، علينا أن نتذكر الشعب الفلسطيني، والذين هم ضحايا ما يزيد عن قرن من التواطؤ بين الاستعمار الأوروبي والصهيونية، والذين ما يزالون اليوم يعانون من الظلم والاضطهاد على يد دولة عرقية من مخلفات العصور البائدة، هي إسرائيل، دولة عازمة على منح وضع متميز لليهود فيها مهما كانت التكاليف.
لا يسعى اللوبي ومؤيدوه فقط إلى إسكات كوربين، بل يسعون أيضاً إلى إسكات الفلسطينيين والأعداد المتزايدة من البشر الذين اختاروا التضامن مع الفلسطينيين. ولكن بينما قد يكسب اللوبي معركته التي يشنها لإلحاق الأذى بكوربين في خطاب المجال العام، إلا أنه يتعرض للانكشاف بفضل عمليات تجري في العمق ستؤدي لا محالة إلى إضعافه إذ يبالغ في تقدير ما لديه من قوة.
إن اللوبي القوي هو اللوبي الذي يبقى إلى حد كبير في حالة من التخفي، كما هو الحال في قطاعات المال والسلاح، إنه اللوبي الذي لا يحتاج لأن يستعرض عضلاته. أما اللوبي الإسرائيلي، ومن خلال إثارة الكثير من الضجيج في سعيه للإضرار بكوربين، فإنه يلجأ مرغماً، وللمرة الأولى، إلى أن يخرج إلى العلن الأسس العنصرية التي طالما ارتكزت عليها حججه.
ومع مرور الأيام سوف يضر هذا الانكشاف، بدلاً من أن يفيد، أولئك الذين يدافعون عن إسرائيل ويبررون أفعالها.