ثمة خلاف حول ما إذا كانت المملكة العربية السعودية أمة قائم بذاتها. أياً كان الحال فإن ولي العهد الحالي محمد بن سلمان عازم على تطوير نزعة قومية جديدة بين الشباب. وشعار هذا التوجه هو “السعودية للسعوديين” بالإضافة إلى شعار شبيه بذلك الذي يستخدمه ترامب “السعودية أولاً”.
لم يفتأ الكتاب المحسوبون على الدولة والذين يكتبون في صحافتها ووسائط التواصل الاجتماعي التابعة لها عن استخدام هذين الشعارين فيما يكتبون. ولذلك فالحكاية ليس تعبيراً عن حركة شعبية وتلقائية وإنما عن مبادرة تقودها الدولة برعاية ولي العهد.
محمد بن سلمان: نموذج يحتذى؟
بينما لا يكف عن تذكير مستمعيه بأعمار مواطنيه وأنهم في الأغلب من فئة الشباب – حيث يمثل السعوديون الذين تقل أعمارهم عن خمسة وعشرين عاماً ما نسبته 51 بالمائة من التعداد الكلي للسكان – يقدم ولي العهد نفسه على أنه نموذج يحتذى وينبغي انتهاج سيرته إذا ما أراد السعوديون أن يُحسبوا ضمن الأمم الحديثة. وتراه في ذلك يستغل احتياجاتهم وتطلعاتهم لتكريس شعور جديد بالهوية.
ولما كانوا هم أولويته الأولى، يتوقع منهم محمد بن سلمان أن يتصرفوا بشكل يعكس إيمانهم بالدولة وبأنها لهم. فيعدهم بمزيد من الوظائف، وبإرث وطني وثقافة وطنية مزدهرين، وبتواصل أكبر مع العالم الخارجي، وبوهم تحديث ليبرالي قادم. إلا أن الخمسين بالمائة المتبقية من السكان تبدو منسية تماماً.
من خلال بناء الشباب كما لو كانوا صنفاً متجانساً قائماً بذاته، يحدد محمد بن سلمان احتياجاتهم ويذيب تبايناتهم ويلغي ما بينهم من تنوع. تتعهد القومية الجديدة للشباب بقطيعة مع الركود الاقتصادي القديم ومع الحماسة الدينية والتوجهات الاجتماعية المحافظة، حيث أنه بعد تحطيم القديم فقط يمكن للأمة الجديدة أن تولد.
إن القومية السعودية الجديدة عبارة عن مبادرة من الأعلى إلى الأسفل. وهدفها هو إيجاد مادة لاصقة تربط الجيل الجديد من الشباب بالنظام الملكي. وكغيرها من القوميات، تحتاج هذه الطبعة السعودية الجديدة إلى مناصرين من بين المفكرين ورجال الأعمال والشباب تناط بهم مهمة نشرها على المستوى الجماهيري.
أن تكون سعودياً، لا عربياً ولا مسلماً، هو أهم ما ترتكز عليه خطط ولي العهد السعودي في سبيل إحكام قبضته على السلطة، وتجديد الرؤية المستقبلية للمملكة العربية السعودية وإنجاح عملية التحول الاقتصادي – وهي الأهداف الثلاثة التي تقوم عليها معظم سياساته.
محمد بن سلمان وافد جديد على القومية، إلا أن سرديته حول من هم السعوديون أو من ينبغي أن يكونوا، وحول مصيرهم ومسؤولياتهم ومواصفاتهم القومية، تعاني من التناقضات المشتركة للقومية التي ازدهرت وانتشرت من قبل في أماكن أخرى من أرجاء العالم.
الأنا الموغلة في الذكورية
وفي القومية السعودية الجديدة يجلس المؤنث والمذكر بكل أريحية جنباً إلى جنباً، فبينما يُحتفى بالذكورية المغالية في سياق التدخل العسكري السعودي في اليمن والصراع مع إيران، يتوجب على الأمة الغضة أن تتأنث لتشمل النساء كرائدات اقتصاديات يساهمن في ثراء الأمة ورغد عيشها.
في الوقت الذي يتم فيه جذب النساء للمشاركة في حضور مباريات كرة القدم في بيئة تطغى عليها الذكورية، فإنهن أيضاً عاملات ماهرات ثمة حاجة ماسة إلى خبراتهن لتحقيق الوعد بإطلاق اقتصاد ما بعد النفط. إلا أن الذكورية القومية المتضخمة تستثني أبناء النساء السعوديات المتزوجات من أجانب، فهم ما يزالون غير سعوديين.
بإمكان النساء أن يقدن السيارات ولكن عليهن الحصول على إذن من أولياء أمورهن الرجال إذا رغبن في السفر إلى خارج البلاد، كما ينبغي عليهن الحصول على إذن من أولياء أمورهن إن رغبن في الزواج، وفي حالة ما لو كان الزوج أجنبياً فلابد من الحصول على إذن من وزارة الداخلية.
يمنح الرجال بسهولة مثل هذه الرخص أما النساء فلا مفر من أن يسعين للحصول على إذن أوليائهن إن أردن الزواج من سعودي أو من أجنبي، مما يثقل كاهلهن بأحمال مضاعفة لمجرد أنهن نساء.
يمكن للنساء أن يصبحن مشجعات لكرة القدم، كما يمكنهن حضور الحفلات الموسيقية والغنائية ومشاهدة الألعاب البهلوانية (السيرك)، ولكن إن رقصن بطريقة مثيرة أو احتضن من يعجبن بهم من موسيقيين، فمن المؤكد أنهن سيتعرضن للاعتقال لأنهن يكن قد انتهكن شرف الذكورة لفئة الشباب التي يريد محمد بن سلمان ضمان بقائها طائعة خاضعة لسيطرته.
يتجنب محمد بن سلمان إثارة الأنا الذكورية المغالية بينما يسعي في نفس الوقت إلى تجنيد النساء في مشروعه القومي الجديد الذي يهدف إلى إقامة اقتصاد خدمات أقل اعتماداً على النفط. يريد محمد بن سلمان إنشاء الأمة الجديدة بكونها أمة شابة وموغلة في الحداثة تتربع في القلب منها المساواة بين الجنسين لتكون علامة فارقة على مشروعه.
الأعداء الحقيقيون والأعداء المتخيلون
كما يفترض في القومية الجديدة أن ترسم الحدود بين المواطنين السعوديين والمقيمين الأجانب الذين ما لبثت أعدادهم تتناقص، فمنذ أن جاء محمد بن سلمان إلى السلطة في عام 2015، غادر البلاد من يقرب من سبعمائة ألف أجنبي، وقد سرع من مغادرتهم فرض برامج السعودة الإلزامية، والتي تلقى شعبية في أوساط الشباب ولكنها لا تروق لأصحاب المشاريع التجارية الخاصة لأنهم لا يرغبون في تكبد تكلفة تشغيل السعوديين.
كما أن الرسوم المرتفعة لتأشيرات القدوم ورخص الإقامة تعني أن المملكة لم تعد مكاناً يغري بالبقاء والعمل بالنسبة للغالبية العظمى من العمال الآسيويين الذين يتقاضون أجوراً زهيدة. بالطبع يشعر الشباب بالسعادة لأنهم يأملون بأن الوظائف الشاغرة ستصبح متاحة لهم. إلا أن معدل البطالة في صفوف الشباب مازال مرتفعاً ويراوح قريباً من ثلاثين بالمائة.
بالإضافة إلى ذلك، تعزز القومية الجديدة من الجبهة المحلية ضد الأعداء الحقيقيين والمتخيلين مثل إيران. لم يعد الصراع مع إيران يبرر باسم مواجهة العقيدة الشيعية المارقة التي يعتنقها الإيرانيون وإنما باسم مواجهة التطلعات الإمبريالية للفرس، والذين كانوا ذات يوم يسيطرون على مناطق واسعة من شواطئ شبه الجزيرة العربية.
وبهذا تصبح القومية السعودية القوة المحركة التي تستخدم لإبقاء زخم الخصومة مع إيران حياً في أوساط الشباب.
الكائن الاقتصادي السعودي
وأخيراً، يُنظر إلى القومية الجديدة على أنها جزء لا يتجزأ من عملية إيجاد الكائن الاقتصادي السعودي. هذا النوع الجديد من الإنسان السعودي ليس ذلك المسلم الورع الحريص على الدفاع عن شرف أبناء ملته الأتقياء، أو المتلقي لعطاء الدولة السخي على شكل رعاية اجتماعية، أو ذلك البدوي المسالم الذي يقضي معظم وقته وهو يرعى الإبل أو يؤلف أشعار البطولة والنخوة.
بل إنه الآن ذلك الإنسان الذي يتوقع منه أن يكون حاملاً للمعرفة الاقتصادية، إنه الرائد في قطاع الخدمات النيوليبرالية، المستهلك لتشكيلة واسعة من المنتجات، ورجل الأعمال المبدع الذي هو على استعداد دائم لركوب الصعب. كما أنه، وأسوة بمحمد بن سلمان، إنسان مثالي موصول بالعالم، يرتدي الثوب الأبيض ولكنه يحمل هاتفاً ذكياً بدل هاتف النوكيا القديم البائد.
لم يعد مطلوباً من النساء ارتداء العباءة السوداء، بل بإمكانهن أن يقدن سياراتهن إلى مراكز التسوق وهن يرتدين خمراً ملونة كمؤشر على ما بلغنه من حداثة وتقدم. مطلوب من السعوديين الآن أن يكونوا قوميين وعالميين في نفس الوقت، بما يكتنف ذلك من تناقضات واضحة يمكن رؤيتها حتى في الدعاية الحكومية.
الصراعات القبلية والإقليمية
وتصبح التناقضات أكثر إشكالاً. فالقومية السعودية لا تستوى مع محاولات استنفار القبلية في الصراعات الإقليمية، الأمر الذي تبدى بوضوح خلال النزاع مع قطر الذي مضى عليه الآن ما يزيد عن عام كامل، والذي حاولت خلاله المملكة العربية السعودية استنفار الجماعات القبلية السعودية ضد دولة قطر من خلال تأليف الأشعار البدوية الهجائية والتي لا تندد فقط بأمير قطر بل تذهب إلى أبعد من ذلك إذ تشكك في صحة نسبه.
وكان المفتي الوهابي للمملكة العربية السعودية عبد العزيز آل الشيخ ومعه مائتان من أفراد عائلته قد أصدروا بياناً زعموا فيه أن تميم بن حمد آل ثاني، أمير قطر، لا ينتمي إلى عائلتهم. تم نشر هذا البيان في صحيفة عكاظ السعودية الرسمية. من الجدير بالذكر أن أمير قطر وعائلة آل الشيخ كلاهما يدعيان الانتساب إلى بني تميم، القبيلة التي تنحدر من وسط جزيرة العرب.
وبنو تميم هي القبيلة التي ولد فيها مؤسس الوهابية محمد بن عبد الوهاب، والذي كان من ثمار تحالفه مع آل سعود في القرن الثامن عشر ولادة المملكة. ما من شك في أن نفي الجذور القبلية لأمير قطر يعتبر إهانة بالغة في أعراف جزيرة العرب التي يتفاخر سكانها بأنسابهم وأصولهم القبلية النبيلة.
وسرعان ما نظمت في المناطق السعودية الحدودية مع قطر المهرجانات القبلية التي تسخر من أمير قطر مما استفز الجانب المقابل وجعله ينظم نشاطات معاكسة يرد بها الصاع صاعين. يكشف ذلك كله التناقضات الكامنة في الأجندة القومية الشاملة التي تستهدف خلق مواطنين سعوديين جدد من فتات قبلي يستنفر بشكل أكثر فعالية لشن حرب إعلامية على قطر.
وفي زحمة الحروب القبلية والأشعار البدوية، تتلاشى القومية والدبلوماسية في عالم النسيان.
وهم متناقض
يتمثل إبداع مشروع الهندسة الاجتماعية الذي يقوده محمد بن سلمان لبناء الأمة الجديدة في وهم متناقض، وهو لا يشذ في ذلك عما كان يعتري جميع المشاريع القومية القديمة والحديثة من عوار. فهنا، يتم اللجوء إلى شكل مخفف من الوطنية لاستنفار المواطنين وحثهم على العمل، إلا أن كراهية الأجانب والانتماء القبلي والكونية السطحية بالكاد تنسجم مع مشروع نيوليبرالي يهدف إلى تحول المملكة العربية السعودية إلى اقتصاد منتج وبلد متسامح ومجتمع منفتح.
في حين أن كل النزعات القومية عبارة عن عملية إنشاء، إلا أن النمط السعودي لا يبدو أنه يقف على أرض صلبة. ما من شك في أن محمد بن سلمان توجه إلى الشباب وسعى إلى كسبهم من خلال فتح المجالات الاجتماعية والثقافية أمامهم، إلا أن هناك ما هو أهم وأكثر إلحاحاً من مباريات كرة القدم وحفلات الغناء في سبيل تحويلهم إلى مواطنين سعوديين لديهم اهتمامات ومهارات تجارية.
لا يمكن لمحمد بن سلمان الاكتفاء ببيع الشباب مجرد كلام وشعارات ووعود. بل هو بحاجة لأن يجعل من القومية مصدراً لفوائد ملموسة مثل الوظائف وتراجع الغلاء وضمان الأمن. لن يكون بإمكانه البقاء متصدراً لكافة القرارات وفي نفس الوقت توقع أن يكون للأمة نصيب في النجاح الذي تحققه مشاريعه.
وطالما بقي الشباب كفئة رهن الإقصاء في عملية صناعة القرار وممارسة الحكم، فسيكتفون بتسلية أنفسهم بالتلويح بالأعلام في كل مباراة كرة قدم وتشجيع لاعبي منتخبهم الوطني.
إلا أن الإقصاء السياسي، مثل ذلك الذي هو حاصل في المملكة العربية السعودية ويشعر به جميع مواطنيها، سيجعل من الأمة بناء هشاً ما يلبث أن يتآكل وينهار، ولا يمكن لذلك إلا أن ينتج مشاعر هدامة من مثل كراهية الأجانب والتعصب.
وطالما بقي الحلم القومي السعودي مجرد مشروع حكومي لا تدعمه فوائد ملموسة يشعر بها جميع المواطنين فإنه لن يرى النور.
ولتجنب الجانب المظلم من القومية المغالية فإن محمد بن سلمان بحاجة لإدراك أن الإقصاء عدو لدود لعملية بناء الأمة. فالقومية التي تبنى على أساس من الإقصاء لن تكون منصفة ولن تكون مستدامة. لابد لبناء الأمم من أن يقوم على أساس من الانفتاح على الجميع.
مضاوي الرشيد