حذرت مجلة “ذي ناشيونال إنترست” الأمريكية من خطورة انهيار مصر، وتحولها إلى دولة فاشلة، بسبب ما وصفته بـ”رداءة الحكم، وهشاشة الوضع الاقتصادي”.
وقالت المجلة الأمريكية في تقرير لها، ترجمته “عربي21”، إن مصر أصبحت اليوم أقل قدرة كلاعب إقليمي مما كانت عليه قبل عقود؛ نظرا لسنوات من التآكل الداخلي للدولة المصرية، مشيرة إلى أن حال الجيش المصري الآن ما هو إلا انعكاس رديء للقوة التي كانت لدى مصر في عام 1973.
وحول اتجاه رئيس سلطة الانقلاب في مصر، عبد الفتاح السيسي، إلى التقارب مع روسيا على حساب العلاقات المصرية الأمريكية؛ بسبب التوترات الثنائية التي شهدتها الأعوام الأخيرة بين القاهرة وواشنطن، استبعدت الصحيفة الأمريكية أن تتحول المؤسسة العسكرية المصرية من الولاء للغرب إلى الولاء لروسيا.
وأشارت المجلة الأمريكية إلى أنه “ليس من السهل تحويل أنظمة التشغيل العسكرية بجرة قلم، خاصة بعد عقود من اعتماد مصر على التجهيزات والتدريبات الأمريكية في جميع المجالات فيما عدا شبكة الصواريخ الدفاعية”، مؤكدة أن موسكو لا يمكنها أن تمنح القاهرة المميزات التي تحصل عليها من خلال علاقاتها بواشنطن.
وأكدت أن “مصر لم تعد بالأهمية ذاتها التي كانت عليها ذات مرة كحليف عسكري للولايات المتحدة”، موضحة أن “تزلف واشنطن إلى السيسي، والسعي إلى استرضائه، بالرغم من سياساته الضالة خشية أن يتحول إلى موسكو، لن يوقف انهيار مصر”.
وأردفت المجلة الأمريكية قائلة: “لم تعد مصر جائزة استراتيجية يمكن للولايات المتحدة أو روسيا أن تكسبها، وإنما باتت تحديا يحتاج إلى المعالجة من خلال الدبلوماسية الحذرة، وربما عند الضرورة من خلال دبلوماسية الإكراه”.
بينما يتركز جل الاهتمام بشأن التنافس بين الولايات المتحدة وروسيا في الشرق الأوسط على سوريا وإيران، إلا أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ما لبث يحاول بهدوء الولوج إلى مصر. فعلى سبيل المثال تعرض أنا بورشفسكايا في مقال أخير لها صورة خطيرة تبدو فيها الولايات المتحدة على وشك فقدان مصر لصالح روسيا.
ولقد سمعنا هذا الكلام من قبل، وسمعناه بالذات من قبل أولئك الذين يعارضون إلحاق أي شروط بالمساعدة العسكرية التي تقدمها الولايات المتحدة إلى مصر. يقول هؤلاء “عليكم الحذر، فالرئيس عبد الفتاح السيسي لم يعد يعتقد بأن بإمكانه الاعتماد على الولايات المتحدة بسبب التوترات الثنائية التي شهدتها الأعوام الأخيرة.” ثم تحذر هذه النظرية من أن القاهرة بدأت تتجه نحو روسيا، الأمر الذي من شأنه في نهاية المطاف أن يحرم الولايات المتحدة من حليف مهم في المنطقة.
وأصل الحقيقة في هذه الفرضية أن السيسي يسعى فيما يبدو إلى إحياء لعبة الحرب الباردة التي جُربت في الماضي وأثبتت نجاعتها في إشغال الولايات المتحدة وروسيا ببعضهما البعض. إضافة إلى ذلك، يبدو أنه معجب إلى درجة كبيرة بالرئيس الروسي بوتين، فكلاهما في الأصل ضابط مخابرات وكلاهما طاغية مستبد. ولكن لدينا ما يجعلنا نشك فيما إذا كانت المؤسسة العسكرية المصرية على استعداد لأن تتحول من الولاء للغرب إلى الولاء لروسيا، كما نشك فيما إذا كانت مصر ماتزال بنفس أهميتها التي كانت عليها ذات مرة كحليف عسكري للولايات المتحدة.
نحتاج لأن نرى الإيقاع المتسارع في علاقات التعاون ما بين مصر وروسيا خلال السنوات الأخيرة ضمن سياق أوسع بكثير من مجرد المثلث الأمريكي المصري الروسي. فمصر لا تسعى إلى استبدال الولايات المتحدة بقدر ما ترغب في كسب الدعم الروسي وإضافته إلى ما تحصل عليه من دعم أمريكي. ثم، لقد سعت مصر ما بعد الثورة إلى التحول نحو سياسة خارجية أكثر استقلالاً تتمكن من خلالها من اللعب بكفلائها وضرب بعضهما بالبعض الآخر. فعلى سبيل المثال، كثيراً ما يحدث ذلك ما بين مصر وكفلائها السعوديين والإماراتيين. كما كانت تلك هي الخطة الأصلية لجمال عبد الناصر قبل أن يتحالف بشكل مكشوف مع الاتحاد السوفياتي ما بعد حرب السويس في عام 1956. بمعنى آخر، لا ترغب مصر في أن تكون متواكلة على روسيا أكثر مما هي متواكلة على الولايات المتحدة. أضف إلى ذلك أن السيسي سعى إلى توسيع الارتباطات الدفاعية والتجارية مع ألمانيا وفرنسا تماماً كما فعل مع روسيا.
وفي خضم طفرة الزيارات والإعلانات الثنائية فإن من السهولة أن يقع المرء في المبالغة في تقدير حجم ما تقدمه روسيا لمصر. خذ على سبيل المثال قروض روسيا لمصر، والتي يتوجب على مصر سدادها، فهذه ليست بديلا عن المنح التي تقدمها الولايات المتحدة مساعدة لمصر، كما أن روسيا ليست في نفس المقام كالولايات المتحدة من حيث تسهيل دخول مصر إلى العواصم الأوروبية وإلى المؤسسات المالية الدولية. ما تحتاجه مصر هو الاستثمار من قبل القطاع الخاص، وتحتاج من ذلك إلى الكثير والكثير جدا – وليس هذا مما بإمكان بوتين أن يقدمه. أضف إلى ذلك أنه ليس من السهل تحويل أنظمة التشغيل العسكرية بجرة قلم وخاصة بعد عقود من اعتماد مصر على التجهيزات والتدريبات الأمريكية في جميع المجالات فيما عدا شبكة الصواريخ الدفاعية.
كما أن بوتين لم يكن داعما للسيسي بلا شروط كما يزعم بعض الناس، وفي نفس الوقت لم يرحب السيسي بكل استهلالات بوتين ومقترحاته. مازال بوتين محجماً عن استئناف جميع الرحلات الجوية التجارية إلى مصر، والتي توقفت منذ التفجير الإرهابي الكارثي في 2015 والذي حطم الطائرة الروسية بعيد إقلاعها من مطار شرم الشيخ. صحيح أن بوتين وافق مؤخرا على السماح للرحلات الجوية بالتوجه إلى القاهرة ولكنه لم يسمح بعد باستئنافها إلى المطارات المطلة على ساحل البحر الأحمر، والتي كانت المهوى الرئيسي للسياح الروس الذي كانوا يترددون على مصر بأعداد كبيرة. وأما السيسي فمازال محجماً بدوره عن الاستجابة لطلب روسي بالسماح للروس باستخدام المطارات العسكرية المصرية – ربما لأن من شأن ذلك أن يضر بعلاقاته مع المؤسسة العسكرية في الولايات المتحدة.
ولكن ماذا لو انهارت العلاقة العسكرية بين الولايات المتحدة ومصر لأي سبب من الأسباب وسعى السيسي إلى تعويض ذلك من خلال التحالف المكشوف مع روسيا؟ سيبدو ذلك على السطح كما لو كان انسحابا آخر للولايات المتحدة من موقعها الذي كانت يوما تهيمن فيه على المنطقة. أما من الناحية العملية، فإن تأثير ذلك على المصالح الأمريكية سيكون أقل بكثير مما كان متوقعا في الماضي.
نظراً لسنوات من التأكل الداخلي للدولة المصرية، فإن مصر اليوم أقل قدرة كلاعب إقليمي مما كانت عليه قبل عقود وما جيشها اليوم إلا انعكاس رديء للقوة التي كانت لديها ثم تبرأت منها تماماً في عام 1973. فعلى سبيل المثال، يتمتع الجيشان الأردني والإماراتي اليوم بقدرة أكبر بكثير على إظهار القوة وبسط النفوذ داخل المنطقة وهما أكثر قابلية من المصريين للعمل بانسجام مع القوات الأمريكية.
وباستثناء ليبيا، والتي هي أكثر أهمية بالنسبة للأوروبيين منها للمصالح الأمريكية، لم تبد مصر رغبة في نشر قواتها خارج حدودها. لقد انتقلت القوة إلى الخليج نظرا للأهمية المتزايدة للنفوذ الاقتصادي، وفي الوقت ذاته تفوقت البلدان العربية الأخرى وبلدان شمال أفريقيا على مصر في مجالات مثل التنمية البشرية. وبينما يبدو أن إدارة ترامب تعتقد بأن مصر تشكل حجر الزاوية في عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية، إلا أنه لا رئيس الوزراء الإسرائيلي بنجامين نتنياهو ولا رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس يتوقع منهما تجاوز ما رسمه كل منهما لنفسه من خطوط حمراء نزولاً عند طلب من السيسي.
تقف معاهدة السلام الإسرائيلية المصرية على أرض صلبة، كما أن العلاقات الثنائية، الدافئة على المستوى الرسمي الباردة على المستوى الشعبي، لم تعد تعتمد على تشجيع الولايات المتحدة ولا على تدخلاتها. والأغلب أن مصر ستستمر في السماح للسفن الأمريكية بالعبور من خلال قناة السويس مقابل المبالغ السخية التي تدفعها البحرية الأمريكية. قد تبادر مصر بحظر حقوق التحليق والهبوط للطائرات العسكرية الأمريكية، ولكن هذه المصلحة نفسها غدت أقل قيمة مما كانت عليه ذات يوم بفضل استمرار الولايات المتحدة في تعزيز موقعها في قطر. كما أن السلوك العربي الآخذ في التساهل تجاه إسرائيل والانفتاح عليها قد يفتح هو الآخر خطوطا جديدة للطائرات المدنية والعسكرية على حد سواء. وأخيرا، يصعب تقدير القيمة الحقيقية لتعاون مصر مع واشنطن في مجال مكافحة الإرهاب، ولكن ما نعلمه يقيناً هو أن السياسات المصرية تساهم بشكل أو بآخر في مفاقمة مشكلة الإرهاب، ونعلم كذلك أن مصلحة القاهرة تكمن في الاستمرار في عمليات مكافحة الإرهاب بغض النظر عن مستوى العلاقات بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية.
مكمن الخطر بالنسبة للولايات المتحدة لا يتمثل في احتمال خسارتها لمصر وإنما في احتمال أن تنزلق هذه الدولة ذات المائة مليون نسمة لتغرق في مصير غامض أو لتصبح حتى دولة فاشلة بسبب رداءة الحكم والنمو السريع في تعداد السكان وهشاشة الوضع الاقتصادي. ما من شك في أن ذلك سيكون مآلا مؤسفا حقا، وذلك أن مصر القوية من شأنها أن تكون مصدرا مهما للاستقرار في الشرق الأوسط. إلا أن التنافس مع موسكو على ولاء مصر لن يوقف انهيار البلد. ثم، لابد من التحذير من أنها من خلال التزلف إلى السيسي والسعي إلى استرضائه، بالرغم من سياساته الضالة؛ خشية أن يتحول إلى روسيا، فإن الولايات المتحدة إنما تزيد من احتمال تحقق مثل هذه المآلات السوداوية. لم تعد مصر جائزة استراتيجية يمكن للولايات المتحدة أو روسيا أن تكسبها، وإنما باتت تحد يحتاج إلى المعالجة من خلال الدبلوماسية الحذرة، وربما عند الضرورة من خلال دبلوماسية الإكراه.