آخر مرّة شاهدتُّ فيها مصر تلعب في كأس العالم كانت عام 1990، في شهر يونيو، أمام هولندا في إيطاليا، وكنت حينها في الـ13 من عمري، شاهدت المباراة في التلفاز بصحبة جيراني وأصدقائي وأبناء عمومتي، نحو 20 مصريًا وهولنديًا انقسم ولاؤهم حينها بين مشجع لمصر ومشجع لهولندا.
والآن، تعداد مصر السكاني أكثر من 95 مليون نسمة، وكرة القدم رياضتنا الوطنية، وبإمكانك أن تلاحظ هذا؛ فأغلب المصريين مشجعون منقسمون للزمالك أو الأهلي، لكنّهم متّحدون بشأن منتخبهم الوطني.
ترعرعتُ في القاهرة، في شارع قريب من مقر النادي الأهلي، كانت كرة القدم عاملًا مؤثرًا في الحياة اليومية، لا مفر منها؛ على الراديو أو التلفاز أو حتى في الأحاديث الجانبية على المقاهي وفي الشوارع والطرقات، ودائمًا ما يسألونك عن ناديك المفضل.
هكذا بدأت «ياسمين الرشيدي»، مؤلفة كتاب «معركة من أجل مصر.. رسائل من الثورة»، مقالها بصحيفة «نيويورك تايمز» وترجمته «شبكة رصد»، مضيفة أنّه طوال 30 عامًا حكمها مبارك، كان يُعتقد على نطاق واسع أنّ كرة القدم لُبّ المعارضة السياسية؛ لذا خشيتها السلطات، على الأقل في الداخل، وكثيرًا ما أنفق مبارك على المنتخب الوطني وكان داعمًا لمكانته ورافعًا من فرص نجاحاته؛ لدرجة أنّ التوتر الذي وقع بين المنتخبين المصري والجزائري استدعى تدخلًا دبلوماسيًا.
لكن، بطريقة ما، لم ألتقط حمى كرة القدم؛ ربما كان هذا نتيجة تعليمي البريطاني أو تأثير غياب الأب المشجع المعتصب عن البيت، أبي عاش في الخارج ولم يبدِ اهتمامًا بكرة القدم، وأمي لم تكن معنية بالرياضة مطلقًا.
لكنّ تأهّل مصر لكأس العالم هذا العام أعادني إلى هذه الدائرة مرة أخرى، وهي مناسبة للاحتفال؛ سواء بمحمد صلاح أو دونه.
تخوض مصر الآن بطولة كأس العالم مرة أخرى بعد غياب 28 عامًا، وتنتشر اللوحات الإعلانية في كل مكان محتفلين بـ«منتخب الفراعنة»، وطُبعت صور محمد صلاح على القمصان والتيشيرتات، وعلى أبواب المحلات والسوبر ماركت، ووصل الأمر إلى طبع صورته على المنظّفات.
وبالرغم من غياب محمد صلاح عن مباراة الأوروجواي، التي انتهت بخسارة مصر 0-1؛ ما زال المُشجّعون يجوبون شوارع مصر احتفالًا وفرحة رغم الهزيمة.
تعرّفتُ على محمد صلاح ومآسره عبر شقيقي، المهتم جدًا بالرياضة، في وقت سابق من هذا العام؛ حينما سمعته يتحدّث عنه أمام صديق له بإثارة بالغة، ويشبّهونه حاليًا برمسيس الثاني.
وباعتباري لست من مشجعي كرة القدم ولا هواتها، فإنني شغوفة بالفعل بالحالة التي خلقها محمد صلاح لدى المصريين. من الصعب ألا تفكّر في الأثر الذي أحدثه في أوروبا، وسط التيار المحافظ الذي اجتاح أراضيها وكوّن صورة غير مواتية عن المسلمين؛ ثم جاء هو ليعدّل هذه الصورة.
محمد صلاح الآن مهاجر مصري عربي مسلم، لكنّ الفارق أنّ كثيرين يلتفون حوله؛ بسبب موهبته العجيبة.
كمصرية، أجد صعوبة بالغة في عدم التفكير في صلاح دون تذكّر المشاعر المماثلة التي انتابتني في ثورة 25 يناير، بالرغم من أنّها ليست قابلة للمقارنة؛ لكنني أشعر بالوثبة نفسها في قلبي، ورغبة في النزول إلى شوارع القاهرة ملوّحة بعلم مصر، مثلما حدث في الأيام الأولى من ثورة 25 يناير والانتخابات الأولى في العام التالي.
لكن، منذ ذلك الحين، تبدّلت الأمور وانقلبت رأسًا على عقب، وأصبنا بخيبة أمل شديدة للغاية؛ بعدما فقدنا أرضنا لصالح السعودية، إضافة إلى انعدام تأثير نشطاء الثورة الذين ساهموا في قيامها بالبداية، محبطين بسبب المسار الذي سلكته البلاد مؤخرًا.
ولد محمد صلاح لعائلة مصرية متواضعة، من قرية ريفية تبعد عن القاهرة 80 ميلًا، لم يكن فيها مركز طبي واحد أو سيارة إسعاف؛ حتى إنّه ورد أنّ محمد صلاح تبرّع لتأسيسها.
باختصار، أصبح محمد صلاح رمزًا لآمال الثورة الضائعة، وتمثّل قصة نجاحه إلهامًا لكثير من المصريين. ويُعتقد على نطاق واسع أنه إذا ترشح للانتخابات حتما سيفوز؛ ساهم في ذلك الاحتفاء الذي يُقابل به داخليًا وخارجيًا، حتى إنّ رئيس الشيشان «رمضان قديروف» ذهب بنفسه لاستقباله.
كما تنتشر صور لمحمد صلاح وهو يصافح «عبد الفتاح السيسي»، وعممت في الصحف المصرية الرسمية وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، كما استخدك جهاز مكافحة المخدرات اللاعب في إعلان توعوي عن خطورة المهخدرات، وحصل الفيديو على 8.4 ملايين مشاهدة في 72 ساعة.
يبدو أنّ محمد صلاح الشيء الوحيد حاليًا الذي يُجمع المصريون عليه، وبالرغم من أنّه ليس سياسيًا؛ يبدو أنه يتمتع بسلطة حقيقية، وبالرغم من أنّ نجاحه لن يفيد الأمة المصرية ماديًا؛ لكنّه يمثّل هروبًا للمصريين من اللحظة الآنية الصعبة، ومن خيبات الأمل السياسية. وسواء ربحنا روسيا أو خسرنا منها؛ فوجود محمد صلاح في حد ذاته أشبه بالفوز.