مشهد (١)
يصر (محمد) أن يسير علي قدميه ، ولاتنفك والدته من الالحاح عليه ليل نهار لشراء دراجة ، تقول له اليوم في الصباح : يابني ده تمن الجزم اللي هريتها كنت جبت بيهم عجلة نضيفة تعيش العمر
يماطل محمد كثيرا ويدخل مع الوالدة في جدل ونقاش ينتهي دائما بقوله لها : يوووه ياماما ، مش عايز أركب عجل ياستي
لابد لمحمد أن يخبر أمه عما يعتزمه ، هو بحاجة ماسة إلي نقود ينفقها علي حلمه ولم يعد يجدي كثيرا أن يخفي عنها مايعتزم فعله ، خاصة وأن عمله كمدرس لغة انجليزية لايكفيه
مذ تخرج من كلية الآداب بتقدير جيد جدا وبترتيب الخامس علي دفعته وهو يبحث عن عمل ، للأسف لم يكن لديه زملاء من أبناء الأساتذة كما هو الحال في قسم الجغرافيا حيث تم تعيين ثلاثة من أبناء الأساتذة .
لم تطلب إدارة الجامعة معيدين في قسم اللغة الانجليزية ، هو بالطبع يعلم السبب الحقيقي وليس ماقالوه أنه (لايوجد درجات مالية) ، نفس هذه الدرجات تم توفيرها لأقسام أخري تصادف – قدرا طبعا – أن بها أبناء أساتذة بالكلية من مختلف الأقسام
محمد ليس سعيدا علي الإطلاق بعمله كمدرس متعاقد بنظام الحصة لتدريس اللغة الانجليزية ، هو لايميل إلي هذا النوع من العمل حيث يطلب منه أن يشرح لطلاب لايأبهون أصلا للمادة ولا للدراسة
فضلا عن أن طبعه الهاديء ودماثة أخلاقه تأبي به أن ينحدر إلي مستوي المدرسين الذين لايكفون عن الصراخ في وجوه الطلاب أو أن يبتزهم من أجل الدروس الخصوصية ، يكتفي بالقليل من المال ومعاش والده فهو لازال أعزبا يعيش مع والدته في شقتها
ثم إنه لايملك وقتا أساسا للتدريس ومهاتراته ، لديه حلم أكبر
السلك الدبلوماسي ، يحدث محمد نفسه بالكلمة كل صباح وهو يبتسم أمام المرآة ، يقضي جل وقته وهو يقرأ العديد من الكتب استعدادا لامتحانات وزارة الخارجية للالتحاق بالمعهد الدبلوماسي للملحقين الجدد .
يتطلب هذا منه اجتياز الامتحان التحريري والشفوي ، لذلك فهو يستذكر ليل نهار وليس فقط يقرأ ، يجيد الآن الفرنسية إلي جانب إنجليزيته الممتازة .
ساعده علي ذلك جده واجتهاده كطالب وحبه للقراءة والاطلاع ، يستطيع الآن أن يتحدث بل ويكتب مقالات محترمة في صنوف مختلفة من العلوم والآداب ، اللغات الثلاث العربية والانجليزية بل والفرنسية ، القانون الدولى العام والمنظمات الدولية ، العلاقات والمشكلات السياسية المعاصرة ، أوروبا والولايات المتحدة ، الوطن العربي ومشكلاته ، الاقتصاد السياسي وموضوعاته وحتي دول القارة السمراء ومشكلاتها
وفقا لنصائح بعض من اجتازوا الامتحان ونماذج الأسئلة فإن محمد يحتاج فقط إلي بعض المراجع المحترمة في كل فن من هذه الفنون ليكون قد بذل جهدا متميزا يضمن له ليس فقط النجاح بل والتفوق
ينزعج محمد كثيرا حين يتذكر ماقاله له أحد من يعملون في السلك الدبلوماسي ملحقا بالمجر : "بص هو كدة كويس بس لازم بردو يكون معاك واسطة" يغمغم محمد في غضب : هو مفكر كل الناس خايبة زيو وبتعتمد علي الوسايط ، ده سلك دبلوماسي يعني سمعة مصر قدام العالم هيخلوها كوسة دي كمان ؟!
اليوم كان محمد سعيدا جدا فقد وافقت والدته أن تدفع بعض مدخراتها ليشتري مايحتاجه من كتب ، استطاع محمد أن يقنعها بأن مستقبل السلك الدبلوماسي أفضل كثيرا من التدريس (ووجع القلب)
حين أعطته الأموال سارع بتقبيل يدها وخرج في لهفة ليشتري تلك الكتب ، يحس الآن أن حلمه أصبح قريبا جدا ، يبتسم وهو يمني نفسه ببداية في أحد البلاد الأوروبية ملحقا بإحدي السفارات أو القنصليات
تثق الحاجة فايزة كثيرا في ابنها محمد
(والله طيب وأمير ومستقيم ولاعمره شرب سجارة ولاحد اشتكي منه ، وطول عمره مريحنا ف تعليمه) ، هكذا تصفه لأخيها الذي يلومها علي انفاقها تلك المدخرات
كان جواب الأخ عليها : ياحاجة فايزة محمد زينة الشباب يامة ، بس الحجات دي بتاعت وسايط ومش عايزو يجري كتير علي قلة فايدة
تجيبه : الحجات دي بتاعت ربنا وهو يقدم اللي فيه الخير .
الآن تفهم لماذا أصر محمد علي عدم شراء الدراجة ، تبتسم وهي تتذكر كلماته مرة أخري (ياما هو في سفير بيركب عجل ؟ ماهو الناس دي هتعمل علينا تحريات بردو ، يقولولهم ايه ؟ بيركب عجل !)
ذات يوم سمعت الحاج عيسي البقال يقول لجارته في محل الدجاج : روح يابني ربنا يستر طريقك انت ابن حلال ، وافقته صاحبة المحل وهي تقول : آه والله الأستاذ محمد ملوش زي في الأدب والاحترام والله ياحج عيسي ١٥ سنة وأنا في المحل دهه عمرو مارفع عينه في واحدة
ابتسمت الحاجة فايزة من مكانها وهي تحس بفخر أنها (عرفت تربي) ، تقول محدثة صورة زوجها المتوفي المعلقة علي الحائط : والله ومحمد كبر وبئوا يتحاكوا بيه ياحج سعد ، تمسح دموعها علي اثر ذكر الزوج الميت الذي تمني كثيرا أن يري ابنه (أفندي أد الدنيا) قبل أن يموت
في الشهور التالية تحول البيت إلي خلية نحل استعداد للامتحانات ، الملابس ، الكتب الشكل الخارجي وحتي لياقته البدنية ووزنه اعتني بها محمد الي اقصي حد
كان يتدرب في البيت علي (الاتيكيت) كذلك ، لاينبغي أن تفوته مثل هذه التفاصيل
(السفير لماح ، مثقف ،زكي ولايفوته أيا من تلك التفاصيل) هكذا يحدث محمد نفسه قبل أن يحمل حقيبته ذاهبا لأداء الامتحانات
مشهد (٢)
لم يحب محمد ذلك الفتي المدلل الذي قابله أثناء أداء الامتحانات ، في الحقيقة لم يجد نفسه كثيرا مع أولئك المتقدمين المتأنقين ، كان يحب دائما أن يكون وسط المجموعة الأخري التي لاتكف عن القراءة ومراجعة مواد الامتحان ، عبدالحميد ، سيد ، علي السنباطي .
عبدالحميد علي سبيل المثال باحث لايشق له غبار ، تخيل أن الـ٤٢ متقدما لوظيفة الملحق التجاري كانوا في دورة تحضيرية يشرف عليها عبدالحميد – وهو الآن أحد المتقدمين – بتكليف من وكيل الكلية ، يعتقد أساتذته أن له مستقبلا رائعا وجميع من بالمكان يعتبره مرجعا في اجابات الأسئلة ، يريد محمد أن يوطد العلاقة معه فهو شخص نادر وسهل المعشر
هو كذلك ينتمي لنفس الطبقة الاجتماعية فهو أحد سبعة إخوة لحارس عقار
بالشرقية ثم إنه ينبغي لـ(محمد) أن يكون له مرجع في الأمور التجارية حين يبدأ العمل كملحق في أحد السفارات
بالأمس يخبره عبدالحميد عن ذلك الفتي المدلل ، يقول له في ابتسامة ساخرة : ولا ذاكر ولاعمل أي حاجة ، شغال دكتور عيون وأبوه أستاذ في الجامعة وأمين الحزب الوطني هناك ، وعلي الأساس ده زي مانتا شايفه كده ، جاي من بيتهم سفير
يتساءل محمد : وهي الأشكال دي تنفع تبأة واجهة لمصر ؟ المعايير فعلا اختلت والله
مشهد (٣)
مر عليه في هذا الوضع ثلاثة أيام ، يغلق باب حجرته ، لايرد علي أحد ، لايجيب نداء أمه ، الأم بدورها أغلقت باب الشقة ولم تجب نداء أي شخص ، ولازالت تضع كفها علي خدها وهي تجلس في حزن عميق
يقول شقيقها وهو يحادثها عبر الهاتف : ياحاجة والله أنا ماكنتش عايز نوصل للمرحلة دي ، أنا قلتلك الموضوع بتاع وسايط وانتي ماسمعتيليش ، يلا خير بس كان أولي محمد يتجوز باللي صرفتوه ده
حاولت أن تتحدث مع محمد مرة أخري إلا أنه أبي أن يفتح لها الباب
اجتاز الامتحانات النظرية والشفوية ثم تم رفض تعيينه بينما تم تعيين تلك المجموعة التي يثق تماما أنها لم تبذل أي جهد ، الآن يحس بكم المرارة بعد إذ بذل الجهد لمدة سنة كاملة لكنه افتقد للحل السحري ، الواسطة
الآن ترن في أذنه كلمات ذلك الملحق في سفارة المجر : انت محتاج واسطة
الآن يعلم أيهما كان المخطيء ، ويعلم أيهما كان الحالم
لايستطيع أن ينظر في عيني والدته ، يحس أنه خذلها ، لقد أعطته مدخراتها وبذلت له وقتا وجهدا ثم عاد لها بخفي حنين
أحلام الغد الجميل في إحدي السفارات ، المرتب المجزي والمكانة الاجتماعية المتميزة تبخرت تماما ، فقد كل شيء ، لأنه (مش معاه واسطة)
قال له عامل الكافيتيريا الذي يحضر النتائج من (الكنترول) : ياباشا خيرها في غيرها ، هتف به في ذهول : يعني ايه ؟ فأجابه العامل : مش انت ياباشا والدك الله يرحمه كان شغال موظف في الادارة التعليمية ؟
يجيبه بتلقائية : أيوة أيوة عرفت ازاي ؟
يتردد العامل ثم يخبره برفق : ياباشا والله انت راجل طيب ، بس محطوط علي وظيفة الوالد خط أحمر كده ، دي معناها ولامؤاخذة (غير لائق اجتماعيا)
يتركه العامل في حيرة غير مصدق وهو يهتف في ذهول : يعني ايه غير لائق اجتماعيا !!
يبصر أحد الممتحنين يصافح واحدا من تلك المجموعة وهو يحدثه في ود واضح : ابأة سلملي علي الوالد كتير
يبحث عن صديقه عبدالحميد فلايجده ، هو الآخر لم يقبل في الوظيفة بينما قبل باقي المتقدمين
تنتزعه طرقات عنيفة علي بابه من بكائه وتفكيره ، هذه المرة يفتح الباب ليجد والدته تبادره : ايه ياابني ؟ اهون عليك تسيبني كده ! افرض مت والا حاجة
يحاول أن يختبئ بوجهه منها ويوليها ظهره فتصر عليه حتي يواجهها تهتف به : قوللي طيب ايه اللي حصل ؟ فهمني يابني حرام عليك
يلتفت اليها بعينين باكيتين هاتفا بها : غير لائق اجتماعيا ياماما؟ غير لائق اجتماعيا
ترد الأم في ذهول : يعني ايه يابني غير لائق اجتماعيا ؟
يجيبها في مرارة : قالوا ابوه كان موظف في الادارة التعليمية ، ثم يهتف باكيا : الغلابة ملهومشي مكان هناك يا ماما
تتماسك الأم وكأنها تلقت إهانة ثم تهتف به : عارف والله العظيم أبوك الله يرحمه كان راجل ولا كل الرجالة وكان نضيف ومحترم وسمعته زي الفل وعمره يابني مادخل علينا قرش حرام أبدا
تخرج الأم إلي الصالة ، تنزع صورته عن الحائط ، تحتضنها وهي تبكي قائلة : الله يرحمك ياحج سعد ، الله يرحمك ، الله يرحمك
يواصل (محمد) نشيجه وسط غرفته ، يهدأ قليلا ثم يخرج ليحتضن أمه الباكية ، يقبل رأسها ويدها فتحتضنه وهي لاتزال باكية تهتف : والله يابني ماحوشنا عنك أي حاجة تطولها ايدينا ، والله يابني نفسنا تكون أحسن واحد
مشهد (٤)
في الصباح يستيقظ محمد مبكرا ، يهم بالخروج فتسأله والدته : علي فين عالصبح يامحمد ؟
يجيبها : رايح أشتري عجلة ياماما ، تنحدر من عينه دموع في مرارة ، يخرج سريعا وهو يغالب دموعه المنهمرة
عند بائع الجرائد يقرأ خبر
(انتحار عبدالحميد شتا بعد رفض تعيينه ملحقا تجاريا لكونه "غير لائق اجتماعيا")
يضع الجريدة في مكانها مرة أخري ويعتلي دراجته ، يسير في صمت شاردا يفكر كيف يستطيع تكوين مجموعة طلابية للدروس الخصوصية
الجمعة ١٩ أكتوبر ٢٠١٢ – آوريش – بالقرب من بحر الشمال
عزيزي أليكساندر
هل علمت الآن لماذا تترجم (حالتي) علي الفيسبوك لتجدني أسب أشخاصا ومؤسسات ؟
هل علمت لماذا يظهر من تعليقاتي غضب وانفعال زائد عن الحد ؟
هذه ليست ملخصة لأحد القصص ذات النهايات الشكسبيرية المحزنة ، فالشخصيات الثلاثة حقيقية ، اثنان منها أحياء يرزقون ، الثالث نشرت الصحف خبر انتحاره في النيل في صيف ٢٠١٠
هل علمت لماذا لابد أن تسقط (دولة البهوات) التي حدثتك عنها ؟ ، ولماذا ينبغي أن يموت (ولاد الو…….ة) ؟
كل ولاد الو……ة