للمرة الأولى في عام 2005، احتلّت صورة مقتدى الصدر غلاف مجلة «التايم»؛ باعتباره أحد أكثر المؤثّرين في السياسة العراقية، وأحد أبرز الشخصيات السياسية التي ظهرت بعد الغزو الأميركي في 2003. والآن، تمكّن من الفوز في الانتخابات العراقية الأخيرة؛ ليتصدر المشهد مرة أخرى.
ولد «مقتدى» عام 1973 لأسرة شيعية، ضمّت شخصيات دينية ذات تأثير بالغ، وكانوا أبرز المعارضين لصدام حسين، الذي قتل كثيرين منهم؛ بمن فيهم والده.
وبعد ظهور نتائج الانتخابات زار «مقتدى» قبر والده في النجف، عاقدًا ذقنه باديًا شخصًا يتطلع إلى المستقبل. وفي 19 مايو الماضي، التقى برئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، وقبلها بيوم استضاف سفراء السعودية والأردن وتركيا وسوريا والكويت؛ بينما لم يحضر الإيرانيون، الذي يمثّلهم في العراق قاسم سليماني؛ وهذا الحضور واللقاءات يكشفان قوّته.
هذا ما يراه الباحث في منتدى الشرق الأوسط «سيث فرانتزمان» في تحليله بمجلة «ناشيونال إنتريست» وترجمته «شبكة رصد»، مضيفًا أنّ «مقتدى» يُنظر إليه باعتباره شيعيًا شعبويًا وأحد أبرز المناهضين للأجندة الإيرانية داخل العراق؛ فكثيرًا ما وقف أمام محاولاتهم المستمرة للسيطرة عليه بعد هزيمة «تنظيم الدولة» في يوليو 2017. وسافر أيضًا إلى السعودية والتقى ولي عهدها محمد بن سلمان؛ في خطوة بدت تمثّل إعادة رسم للتحالفات في المنطقة.
وقاد «مقتدى» مليشيا «جيش المهدي» في العراق في 2004، ومنذ حينها بدأ نجمه يصعد، لكن أميركا لم ترضَ عنه؛ خاصة بعد أن سيطر بجشيه على مدينة الصدر في بغداد عام 2008، وعلى إثرها حاربته والجيش العراقي في معارك تكبّدت فيها القوات الأميركية والعراقية خسائر هائلة، ثم تغيرت الاستراتيجية الأميركية تجاهه بعد أن وضح خطه المعادي لإيران؛ بعدما كُشفت مؤخرًا برقيات ومراسلات سرية بين «مقتدى» ومسؤولين أميركيين تتحدث عن ذلك، وعن خطط مواجهة إيران ورجالها ووكلائها داخل المؤسسات العراقية.
على سبيل المثال: ناقشت برقية إمكانية الإفراج عن رهائن أميركيين مقابل الإفراج عن رجال تابعين لمقتدى تحتجزهم أميركا. وفي برقيات أخرى، دارت نقاشات عن رجال إيران في العراق وكيفية مدّهم بالأسلحة والمال وغيره من الدعم الإيراني؛ ما مثّل قيمة لأميركا.
ولإظهار نفوذه وقدرته المتنامية، بدأ «مقتدى» جولة دولية في فبراير 2006؛ فغادر إلى إيران ثم السعودية، قبل أن يلتقي بشار الأسد حينها ويعرض عليه مساعدته بمليشياته إذا هاجمه الغرب، كما زار الرقة والتقى زعماء القبائل السنية، فاتحًا معهم صفحات جديدة؛ بل وتحدّث مع متشددين سنة أيضًا في الوقت الذي تتقاتل فيه المليشيات الشيعية باستمرار مع أفراد من «القاعدة».
مقتدى وإيران
بحلول 2007، أصبح «مقتدى» شخصية ذات أهمية كبرى، واعتبره المسؤولون الشيعة خطرًا، واشتبك جيشه قبل ذلك مع أعضاء من «منظمة بدر»، التي كان يرأسها «هادي العامري» الرئيس الحالي لقائمة الفتح التي احتلت المرتبة الثانية في الانتخابات العراقية. كما تعتبره إيران أيضًا إحدى أبرز المشكلات التي تواجههم في العراق، ويعتبره المرشد الإيراني الأعلى تهديدًا لخططهم.
ثم دخل «مقتدى» في أوقات ركود وازدهار مختلفة، وأثناء ذلك، بدأ وكبار مستشاروه إعادة النظر في رؤيتهم للعراق؛ ففي أوائل عام 2008 اتّصل أحد كبار الصدريين، يدعى «جواد الحسناوي»، بالأميركيين وأخبرهم بشيء اعتبرته أميركا مذهلًا؛ إذ أكّد لهم أنهم يرون إيران عدوهم الأبرز لا أميركا، ووصف إيران حينها بـ«الشيطان الذي حان الوقت لتقليم أظافره».
وفي نقاشه معهم، قدّم «جواد» دليلًا للأميركان على أنّ إيران أرسلت وكلاء إلى كربلاء، المدينة الشيعية المقدسة؛ وأنّ ما فعلته أشبه بالاحتلال، زاعمًا أيضًا أنّ إيران في طريقها للسيطرة على قيادات مهمة داخل الجيش العراقي، إضافة إلى المؤسسة السياسية والاقتصادية وحتى المؤسسة الدينية الشيعية؛ وهذا جزء من خطة إيرانية قديمة للسيطرة على العراق.
كما ادّعى «جواد» أنّ أفرادًا محدّدين داخل منظمة «بدر» عملوا في إيران، وتحدّث أيضًا عن المالكي، الذي يصف نفسه دائما بأنه أكثر رجل شيعي يمكن أن يثق فيه الأميركيون؛ مدعيًا أنّ له خططه المستقبلية تجاه العراق.
وذكرت برقية دبلوماسية أخرى في عام 2008 أنّ المالكي سعى إلى تعزيز سلطته، عبر إظهار قدرته على السيطرة على مليشيا الصدر، وحينها التقى مع الإيرانيين وتحدّث إلى خامنئي والجنرال سليماني، اللذان ظهرا موافقين على تحجيم «مقتدى»، وبدا أنّ أميركا حينها متوافقة مع نوايا المالكي؛ بعكس الحقيقة.
أجندة خاصة
وقال المحلل «ديفيد ساترفيلد»، المنسق العام للعراق والمستشار الأقدم لوزيرة الخارجية الأميركية «كوندوليزا رايس»، إنّه أحد أكثر المسؤولين الأميركيين حذرًا تجاه الدور الإيراني في العراق، ولتضطر للسيطرة على بغداد عليها السيطرة على دمشق أولا؛ وهو ما كانت تسعى بالفعل إلى تحقيقه عن طريق وكلائها ورجالها.
وأضاف، في برقية، أنّ طهران تفضّل التعامل مع أشخاص محددين داخل العراق ولا تتعامل رسميًا مع الدولة؛ ما خلق إحساسًا بأنها تنفّذ أجندة خاصة بها، وأنها لا تعامل العراق بشكل رسمي عن طريق مؤسسات أو سفارات. وحينها، نُظر إلى «مقتدى» على أنه قوميّ عربيّ لا شيعيًا طائفيًا؛ لكونه أول من كشف للأميركان اللعبة الإيرانية في العراق وسوريا.
بعدها اختفى «مقتدى» عامين عن المشهد السياسي، وغادر في هدوء إلى إيران، ثم ظهر في مارس 2010 مرة ثانية عن طريق أتباعه، الذين عملوا بكدّ على إقرار نفوذهم ومحاولة الفوز في الانتخابات العراقية؛ وحينها وصفت صحيفة «نيويورك تايمز» الصدريين بأنهم «منظمون بشكل غير مسبوق».
وحينها في 2010، أخبر «مقتدى» أتباعه بأنّ باب تحرير العراق أصبح مفتوحًا الآن، ثم حصل الصدريون على 39 مقعدًا من سبعين، وفي يناير 2011 عاد إلى النجف واستقبله أتباعه؛ وأكّد محللون حينها أنه جاء إلى العراق لتولي زمام القيادة مرة أخرى.
لكن، في 2010، حدث شيء غريب لـ«مقتدى»؛ فأميركا أرادت الانسحاب من العراق في الوقت الذي تتطلع فيه إلى إصلاح العلاقة مع إيران، وضغطت على مقتدى لتأييد الاتفاق النووي، وحينها تأكّدت من أنّه الرجل الأقوى القادم؛ لكنّ ما حدث أنّ نجم «المالكي»، الذي وصف نفسه بأنه شيعي مؤيد للأميركيين، صعد؛ وبعدها أصبح «مقتدى» أحد أكثر معارضيه قوة، وفي 2014 أعلن أنه سيغادر العراق؛ لكنه حظي بالفعل باحترام واسع النطاق عبر الطيف السياسي العراقي، خاصة الذين عارضوا المالكي؛ وبذلك عاد ليتصدر المشهد وبقوة.