قبضت الأجهزة الأمنية المصرية على الناشط الساخر شادي أبو زيد يوم 6 مايو الجاري، ثم على شادي الغزالي حرب في 15 مايو، وقبله اعتقلت الناشطة أمل فتحي وزوجها وابنهما البالغ من العمر ثلاث سنوات، ثم على المحامي العمالي وعضو حركة الاشتراكيين الثوريين هيثم محمدين، وبعده المدوّن وائل عباس في 23 مايو الجاري، وأكّدت مصادر أمنية أنّ الدكتور حازم عبدالعظيم قُبض عليه أيضًا «لنشر أخبار ومعلومات كاذبة والتحريض ضد الدولة».
السيناريو نفسه يتكرّر في كل مرة يُقبض فيها على شخص: مجموعة من الأمن الوطني تقتحم منزله، عادة وقت الفجر، ثم الاجتجاز دون إذن من النيابة؛ ومصادرة أجهزة الكمبيوتر والكتب والهواتف المحمولة وسرقة النقود. وقبل معرفة مكان المقبوض عليهم، يتعرّضون إلى التعذيب والصعق، ثم التهم الجاهزة؛ مثل «نشر أخبار كاذبة ودعم جماعة محظورة».
فوائل عباس اختفى قسريًا لأكثر من 24 ساعة قبل أن تُبلغ عائلته ومحاميه بمكان وجوده، وفي الساعة السادسة مساء اليوم التالي أكّد محاميه تجديد حبسه 15 يومًا على ذمة التحقيقات في القضية رقم 44/ 2018 بتهمة «الانتماء إلى جماعة محظورة، واستخدام الإنترنت لنشر أفكارها، ونشر أخبار كاذبة»؛ وهو الحاصل على جازة نايت فارس للصحافة الدولية، ويضم حسابه على تويتر نحو 350 ألف متابع، وأُغلق بعد القبض عليه.
هذا ما رصدته رئيسة التحرير السابقة لديلي نيوز إيجيبت «رانيا المالكي» في مقالها بصحيفة «ميدل إيست آي» وترجمته «شبكة رصد»، مضيفة أنّ الحملات الممنهجة على المعارضة المصرية لا تأتي من فراغ؛ فالمدّة قبل شهر رمضان الكريم شهدت ارتفاعات هائلة في أسعار المواد الغذائية، ومضاعفة سعر تذكرة المترو نحو ثلاثة أضعاف، إضافة إلى المصادمات والمناوشات بين أجهزة الأمن والمواطنين، وقبضت على 21 شخصًا منهم.
مسألة وقت
وحظرت مصر التظاهر دون ترخيص؛ بإصدارها «قانون التظاهر» في 2013، وبسببه أصبح الأمر نادرًا؛ لكنّ ارتفاع تكاليف المعيشة وإجراءات التقشف ورفع الدعم عن السلع الغذائية الأساسية والوقود وإدخال ضريبة القيمة المضافة أثاروا السخط العام.
ويبلغ متوسط الدخل الشهري للمواطن المصري نحو 230 دولارًا (نحو أربعة آلاف جنيه مصري)، كما تعاني الخدمات والبنى التحتية من تدهور شامل؛ والأمر مجرد مسألة وقت قبل أن يتزايد الإحباط في الشارع المصري، وهو السبب فيما تفعله الأجهزة الأمنية.
واعتقال وائل عباس على وجه الخصوص يدلّ على التآكل الخطير لسيادة القانون والحقوق المدنية في مصر؛ إذ بدأ وائل نشاطه الإلكتروني أثناء نظام مبارك، عبر مدوّنته الشهيرة «مصر ديجيتال»، ونشر فيديوهات التعذيب من داخل أقسام الشرطة ووثّق الاعتداءات الجنسية؛ مثل الاعتداء الجنسي على سائق ميكروباص يدعى عماد الكبير، وهي القضية التي أدين فيها ضابطان بالحبس ثلاث سنوات.
وكان وائل من أبرز المشاركين في ثورة 25 يناير، وهو أوّل من لفت الانتباه إلى جرائم الشرطة المصرية، وبينما كان يواجه اغتيالًا معنويًا حينها من الأجهزة الإعلامية الموالية للدولة، أُغلق حسابه على «يوتيوب»؛ لكنّ لم يُقبض عليه بأي تهمة، بعكس ما يحدث الآن.
وما حدث لوائل عباس أثناء عهد مبارك، أو بالأدق مالم يحدث له، كان منطقيًا حينها؛ فمبارك كان واعيًا بضرورة ترك متنفس لمعارضيه؛ للحفاظ على مظهر نظامه أمام المجتمع الدولي، الذي كان يخنق عليه بشدة.
ولأنّ الضغط على مصر منعدم حاليًا، ولأنّ الاتجاه اليميني يتزايد في العالم؛ لم يلقَ السيسي أي معارضة على أفعاله. ومؤخرًا، أكد نائب رئيس أميركا «مايك بينس» أنّه تحدّث مع السيسي بشأن تعزيز الشراكة القوية بين البلدين، معلنًا أنّه تمكّن من الإفراج عن المواطن الأميركي المحتجز في مصر «أحمد عطوي».
ومن المفارقات أنّ تغريدة مايك بينس نُشرت في الوقت ذاته الذي أُعلن فيه القبض على وائل عباس، وإقرار تجديد حبسه 15 يومًا والتهم الموجهة إليه، بينما أطلق سراح «أحمد عطوي» بعد خمس سنوات قضاها في السجن بشكل غير قانوني؛ وحالته لا تنفي أنّ أميركا صامتة عن انتهاكات حقوق الإنسان في مصر.
لكنّ هذا لم يكن مفاجئًا؛ خاصة إذا نظرنا إلى صمت مصر على قرار أميركا بنقل سفارتها من «تل أبيب» إلى القدس، وأيضًا احتفال «إسرائيل» بعيد استقلالها داخل فندق «ريتز كارلتون»، تزامنًا مع قتل الفلسطينيين في قطاع غزة؛ فقتل في ذاك اليوم وحده 62 فلسطينيًا وأصيب المئات.
ومنحت أميركا الديكتاتوريين في الشرق الأوسط ترخيصًا لانتهاكاتهم. وفي النهاية، لا يكفي أنّ آلاف المصريين مقتنعون بأنّ وائل عباس والعشرين صحفيًا المسجونين، والأعداد التي لا تحصى من سجناء الرأي، مشتركون في مؤامرة دولية ضد مصر. وبغضّ النظر عن عدد المنظمات الدولية لحقوق الإنسان التي تدين بصوتها؛ فصراخها المستمر لا يسمعه العالم، الذي قرّر صم آذانه عن الجرائم القاسية في حق الإنسان.