تتجه دول خليجية نحو ما تسمى «الليبرالية الثقافية والاقتصادية»، لا على المستويين السياسي أو السلطوي، بل إلى أشكال من الانفتاح الاجتماعي والاقتصادي؛ تفاديًا للمطالبة بإدخال الليبرالية السياسية في أنظمتهم السياسية القمعية المنغلقة تمامًا. والسعودية هي الوجه الأكثر مقاربة لهذه المفارقة، بجانب الإمارات والبحرين؛ فاحتل مجموعة من الليبراليين موقع الصدارة داخل المملكة العربية ليحلّوا محل شيوخ الوهابية، الذين لم تعد بضاعتهم مرغوبًا فيها.
هكذا ترى الكاتبة البريطانية التونسية «سمية الغنوشي» الأوضاع في المملكة السعودية، في مقالها بصحيفة «ميدل إيست آي» وترجمته «شبكة رصد»؛ مؤكدة أنّ «شيوخ الوهابية» لا يملكون الآن أيّ وظيفة سوى إبداء الولاء للحكام الجدد، وبخلاف ذلك يُنظر إليهم على أنهم مسؤولية الدولة السعودية.
وبعد سياسة طويلة من المحافظة الدينية، تسعى السعودية إلى التخلص من الإرث الوهابي الثقيل والتحرك نحو شكل من أشكال الليبرالية «الزائفة»، اقتصاديًا وثقافيًا؛ وبالتالي فرضت تحوّلًا جادًا وسريعًا على الجهاز الديني السعودي، الذي عمل مدة طويلة أداة انضباط وتعزيز للأيديولوجية الوهابية داخل المملكة وخارجها.
ومنذ قرار ابن سلمان تجميد عمل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، شاعت مشاهد تدخل قوات الأمن السعودية لمنعهم من التحكم في مظهر سيدةٍ ما في الشارع. وفي مشهد غير مألوف للملكة، قدّم المغني الشهير «الشاب خالد» حفلًا للجمهور السعودي على ألحان موسيقى الراي الجزائرية.
وأواخر العام الماضي، أحضرت وكالة الترفيه السعودية الجديدة الممثل الأميركي جون ترافولتا لالتقاط صور شخصية مع الفتيات السعوديات المبتسمات؛ وهو أمر كان بعيد المنال قبل ذلك بعام واحد فقط داخل السعودية؛ خاصة وأن معظم السيدات متشحات بالسواد.
الأيديولوجية الدينية الوحشية
وسُمح أخيرًا للسيدات السعوديات بقيادة السيارات مثل معظم السيدات في جميع أنحاء العالم، كما سُمح لهن بالاستمتاع بالأنشطة الترفيهية مثل دول عربية وإسلامية تحظى بها منذ عقود؛ لكن غابت التغيّرات والتحولات السياسية بشكل كامل ومطلق عن هذه التحولات، الشبيهة بالقشور.
والادّعاء السعودي بأنّ التطرف في السعودية ليس ناجمًا عنها، بل عن أيادٍ أجنبية، بعيدٌ تمامًا عن الصحة؛ خاصة وأنها حملت على عاتقها نشر أيديولوجيتها المتشددة في دول كثيرة. وحتى وقت قريب، دأبت القيادات الدينية السعودية على مهاجمة الليبراليين والمفكرين الإسلاميين الإصلاحيين، وذهبوا لأبعد من ذلك؛ بإفتائهم بأنّ الديمقراطية تتعارض مع الإسلام.
كما أنفق شيوخ الخليج المدعومون من دولهم كثيرًا من الوقت والجهد في سبيل خوض معارك شرسة ضد النساء وحقوق الأقليات والطوائف الإسلامية الأخرى، والدستور والديمقراطية، وخصصت السعودية موارد ضخمة بالمليارات لبناء مساجد وقنوات فضائية لتعزيز تفسيراتها الدينية المتشددة للإسلام.
واليوم نظّمت السعودية انقلابًا ضد قيمها القديمة وموقفها الثابت من الوهابيين، ورفعت يدها عن التشديد الوهابي الذي أنشأته بنفسها ورعته على مدار عقود، وأرادت أن تحل محله ليبرالية ثقافية؛ عبر حفلات رقص وعروض ترفيهية هنا وهناك، بجانب تحرر اقتصادي، والاتجاه نحو خصخصة مؤسسات الدولة الكبرى (مثل أرامكو)، في غياب تام لليبرالية السياسية.
لكن، في كل الأحوال، وضوح مدى الإخلاص السعودي نحو التحول والانفتاح الفعلي يتركز حول الخطوات التي اتخذتها في هذا السبيل على المستوى السياسي قبل كل شيء؛ فالتحوّل الدستوري في الحكم، وقيامه على توزيع السلطة واحترام الحقوق الفردية، ووضع حد للاحتجاز التعسفي، ووقف انتهاك السلامة البدنية والمعنوية؛ هو المقياس الأساسي لأي انفتاح وتحرر.
بينما الموجود في السعودية اليوم يمكن أن نطلق عليه «الاحتيال الليبرالي»، الذي يستهدف شراء حماية الغرب؛ وهو ما يسعى ابن سلمان إلى فعله حاليًا: شراء صمت أميركا مقابل تقديم قشرة مزيفة من الانفتاح الثقافي وضخ مليارات الدولارات في عقود استثمارية وصفقات أسلحة تدرّ أموالًا للأميركيين.
ويرى الأكاديمي اللبناني «غسان سلامة» أنّ إحدى أكبر العقبات التي تواجه العرب اليوم هي الديمقراطية من دون ديمقراطيين، وغياب الديمقراطية والديمقراطيين في أحيان أخرى، وكذلك غياب الليبرالية رغم وجود الليبراليين وأشباههم.
هل هناك ربيع عربي آخر؟
تكمن المشكلة الأساسية داخل الدول العربية في غياب الديمقراطية؛ فوجودها قادر على توليد الديمقراطيين، وبالرغم من أنّه يمكن العثور على بعضهم في العالم العربي؛ فالأنظمة السياسية العربية أكثر قدرة على احتوائهم وإخفائهم. وفي حالة الخليج، وجود شبه الليبراليين لا ينتج بالضرورة ليبرالية حقيقية؛ وكل ما ينتج مجرد شك جديد من الاستبداد في ثوب ليبرالي.
وهو ما يؤكد أن الدول الخليجية تدفع بالفعل نحو الاستبداد الليبرالي؛ باعتمادها على الانفتاح السطحي على الصعيديين الثقافي والاقتصادي، مع مستويات غير مسبوقة من القمع السياسي، ويمثّل تكرارًا لنماذج بن علي ومبارك، التي قامت ليبراليتهم الزائفة على خلق طبقة جديدة من رجال الأعمال المرتبطين بالسلطة، وجرعات صغرى من الانفتاح الثقافي، مقتصرة على الرقص والموسيقى؛ وهذه بالضبط المعادلة التي أنتجت لنا ثورات الربيع العربي.