انقسمت جميع النقاشات في أميركا بشأن الانتشار النووي إلى نوعين: متفائلة ومتشائمة؛ فالمتشائمون يرون الانتشار رغمًا عن إرادة أميركا أو أي دولة أخرى، بينما يرى المتفائلون أنّ أميركا يمكنها السيطرة على الانتشار النووي بسهولة؛ لكنها تحتاج فقط إلى قرارات صحيحة. وللأسف، معظم القرارات المتّخذة على مدار السنوات الماضية الخاصة بالتعامل مع المشاكل النووية زادت من عمق الأزمة ولم تساهم في حلها.
هذا ما يراه «مايكل كريبون»، المؤسس بمركز ستيمسون الخاص بالتحليلات السياسية المعمقة، في تحليله بمجلة «ناشيونال إنتريست» الأميركية المعنية بالتحليلات العسكرية وترجمته «شبكة رصد».
وقال «سكوت ساجان»، المتخصص في العلوم السياسية وأستاذ الهندسة النووية، إنّ العالم محظوظ لتجنب الدول استخدام الأسلحة النووية في الحروب؛ لكنّ هذا الحظ قد ينفد، سواء بقرار قيادي أو انهيار التحكم، أو حتى عن طريق الصدفة؛ خاصة مع ارتفاع عدد الدول التي تمتلك أسلحة نووية حاليًا، وهناك دول أخرى ستتبع خطواتهم نحو تطوير دفاعات وقدرات نووية عسكرية؛ خاصة وأن الإقبال عليها زاد في السنوات الأخيرة، بزعم الاستخدام السلمي؛ ما يضع العالم على حافة الخطر، وهو يخشى أصلًا الحروب التقليدية؛ فما بالك بالنووية؟!
انقسامات أميركية
والآن، الحزبان الأساسيان في أميركا «الجمهوري والديمقراطي» غارقان في كيفية رؤية سعي السعودية للحصول على أسلحة نووية لمواجهة إيران، أو لتحقيق التوازن النووي في المنطقة؛ مختلفين في الطريقة المثلى لتحقيق مطالب الحلفاء، وفي الوقت نفسه حماية العالم من خطر الانتشار النووي، ملوّحين تارة بالعقوبات وتارة أخرى بالتهديدات. وهناك انقسام كبير على مقدار الجهد المطلوب من أميركا لصيانة معاهدة منع الانتشار النووي.
ولا يمكن اعتبار الانقسامات بين الساسة الأميركيين جديدة؛ إذ تعود لعام 1999، أثناء محاولة تطبيق الحظر الشامل على التجارب النووية داخل مجلس الشيوخ الأميركي، حتى من قبل هذا التاريخ؛ لكنها نمت وبشدة أثناء مناقشة الاتفاق النووي الإيراني، وفوجئ المؤيدون بمدى النجاح الذي حققته إدارة أوباما والمفاوضون المتعاون معها، بينما رأى المعارضون أنّ الصفقة فشلت في تحقيق أهدافها، وسعت إيران نحو تطوير قدرات نووية بالفعل.
ويتركّز الشك في مستقبل الانتشار النووي حاليًا على القضيتين «الإيرانية» و«الكورية الشمالية»، المستمرة منذ تسعينيات القرن الماضي، وهو الوقت الذي تنازلت فيه الأرجنتين والبرازيل عن طموحاتهما النووية، تبعتهما جنوب إفريقيا وأوكرانيا وكازخستان؛ وكان للدبلوماسية الدور الأبرز في التزام هذه الدول، وليس عن طريق الحروب والنزاعات.
كما تزامنت هذه الإنجازات الدبلوماسية مع المفاوضات بين القوات الأميركية والروسية لتقليل الهجمات بينهما، ومنذ 1995 شهدت معاهدة الانتشار النووي ذروتها، ثم بدأ المد النووي يتحول نحو القارة الهندية عام 1998، وهو الوقت الذي رفض فيه مجلس الشيوخ الأميركي معاهدة حظر التجارب النووية، ثم جاءت أحداث 11 سبتمبر وتوسعت الاستهدافات الأميركية في الخارج لـ«مواجهة التهديدات الإرهابية»، وانسحبت أميركا من معاهدة الصواريخ المضادة للقذائف التسيارية؛ ما جعل واشنطن والكرملين على مسار التصادم مرة أخرى.
واتخذت إدارة بوش إجراءات وقائية ضد نوايا صدام حسين، وحينها احتضن الحزب الجمهوري الأميركي المقاربة العسكرية، ومحاكاة السياسة الإسرائيلية برفض علاقة ردع في دول مجاورة، ونجحت الطائرات العسكرية الاحتلالية في إطلاق ضربات جوية ضد مفاعلات نووية مثل التي ضربتها في سوريا وأعلنت عنها الأيام الماضية.
كما اختارت إدارة أوباما التعامل مع الزعيم الليبي معمر القذافي وغيّرت نظامه بالقوة؛ ونتيجة لذلك عمّت الفوضى في الأراضي الليبية، ثم تحوّلت نحو التعامل مع إيران؛ لكن عن طريق الدبلوماسية وليس عن طريق الحرب كما فعلت مع القذافي.
لكن، على كلٍّ، في كل النوايا الأميركية والخطط دائما ما توجد انقسامات بين استخدام العمل العسكري والدبلوماسية. وفيما يتعلق بحظر الانتشار النووي؛ فعلى سبيل المثال، أيّد الجمهوريون تخفيض تمويل المنظمة التي أنشئت في فيينا لمراقبة التجارب النووية؛ انتظارًا لدخول معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية حيز التنفيذ، وفشل نظراؤهم في الحزب الديمقراطي في وضع معايير أكثر صرامة للوكالة الدولية للطاقة الذرية.
سياسات متخبطة
وحاليًا، وبسبب السياسات الأميركية المتخبطة، يشعر كل أصحاب الأسلحة النووية والمالكون أنّ بإمكانهم مقاضاة بعضهم بعضًا بسبب هذه المعاهدة تحديدًا؛ لأنّ أطرافًا التزمت بها وأطرافًا نقضتها، أخرى لا تلتزم بها؛ وهو الأمر الناجم عن السياسات الأميركية.
وتظهر هذه الخلافات بشكل أعمق وأكبر بين أكبر قوتين عالمتين «روسيا وأميركا»؛ فروسيا تتصرف تجاه جيرانها بشكل سيئ، ما يثير تخوّفات من استخدامها الأسلحة النووية، بينما ترى أميركا أنها المتحكم في من يمتلك ومن لا يمتلك؛ لذا نتج انقسام بشأن معاهدة حظر الانتشار النووي بدلًا من التوافق الدولي عليها.
ومن المرجح أن تؤدي الانقسامات الحزبية في واشنطن، وازدراء الجمهوريين الواضح لدبلوماسية وقف الانتشار وجاذبيتها تجاه الوسائل الأكثر انحرافًا وقسوة، إلى مزيد من التخبط؛ خاصة فيما يتعلق بالاختيارات النووية.
ومنذ عقود، حافظت أميركا على علاقات قوية مع حلفائها؛ حفاظًا لأمنها القومي. لكن، يبدو أن إدارة ترامب ستستغل هذه التحالفات في التخلي عن أهم قيمها المتعلقة بالانتشار النووي، فيما يخص السعودية تحديدا؛ وهو ما سيحدده تعامله مع القضيتين الإيرانية والكورية؛ فإذا انتهت صفقته مع إيران وكوريا بشكل سيئ فأسوأ السيناريوهات سيأتي بعدها، فالسعودية تنتظر بفارغ الصبر ماذا سيحدث مع إيران، وقال ولي العهد السعودي من قبل: «إذا طوّرت إيران قدرات نووية ستفعل الرياض».
وبالرغم من تأكيد المرشد الأعلى الإيراني من قبل أن إيران لا تطمح إلى امتلاك قنبلة نووية؛ فالمتشائمون يرون كلامه غير مقنع إلى حدٍ كبير. ففي القضايا النووية لا بد أن تضع تصريحات المسؤولين الأجانب جانبًا؛ فقد يمارسون فنّ الخادع. ويرى المتشائمون من الوضع الإيراني أنّ ما تقوله إيران بشكل رسمي يستهدف خداع إدارة ترامب ليبتعد عن تعديل الاتفاق النووي.
كما يمكن لأميركا أن تساهم في إسراع إيران نحو تطوير السلاح النووي، خاصة في ظل التهديدات المستمرة بإطلاق عمل عسكري أو تغيير النظام بالقوة؛ ما يعطيها دافعًا قويًا لتطوير قدراتها النووية لاستخدامها بشكل رادع. لذا؛ يجب على أميركا أن تتعامل بحكمة في هذه المسألة تحديدًا، لأنه يتوقف عليها مستقبل المحادثات مع كوريا ومع السعودية.
فإذا ما انتهت المحادثات بشكل سيئ فمن المحتمل أن تختار إدارة ترامب توجيه ضربات وقائية ضد كوريا، مثلما فعلت مع صدام من قبل؛ ما قد يقود إلى حرب جديدة في شبه الجزيرة الكورية مع عواقب قصيرة المدى وأيضًا بعيدة، وهو الجدال نفسه الذي حدث عندما أصبحت القدرات النووية الصينية والروسية واضحة لأول مرة ونوقشت الضربات الوقائية؛ لكنّ الروس والصينيين يبدوان أكثر برودة، وتقريبًا لم يعيرا أميركا اهتمامًا؛ لذا لم يحدث شيء. بل العكس، سارعا في تطوير الأسلحة النووية لاستخدامها بشكل رادع؛ وهو ما ستفعله إيران، كما يرى المتشائمون من الاتفاق النووي.
لكن، على كلّ، ما فعلته أميركا مع صدام حسين، وما تبين من أكاذيب روجتها الإدارة الأميركية فيما بعد؛ تسبب في ضعف مصداقيتها وضعف معاهدة حظر الانتشار النووي. لذا؛ أي اختيار ستتخده أميركا لمواجهة كوريا أو إيران يجب أن يُدرس بعناية فائقة وتُحدّد آثاره على المديين القريب والبعيد، والخطوات التي ستتخذه الدول الطامحة إلى امتلاك برامج نووية في هذا الشأن.