بعد إعلان هزيمة «تنظيم الدولة» في ديسمبر الماضي، نظّمت القوات المسلحة العراقية مسيرات احتفالية في العاصمة بغداد. لكن، بعدها بأقل من شهرين، أعلن التنظيم مسؤوليته عن هجومين كبيرين في بغداد وكركوك، بعدما ارتدى أفراده أزياء عسكرية عراقية وقادوا هجماتهم؛ وهو ما يفتح الباب أمام التساؤل: هل هُزم التنظيم فعلًا في العراق؛ خاصة في ظل صعوبة التعرف على مؤيديه والمتعاطفين معه في الدولة العراقية الآن؟
تسعى مديرة المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرف «آن سيبكارد»، المشهورة بإجرائها مئات المقابلات مع «إرهابيين» قبض عليهم، الإجابة عن هذا التساؤل وتحليل الوضع في مقالها بصحيفة «ذا هيل» الأميركية وترجمته «شبكة رصد»؛ وترى أنّ الفساد الممتد داخل العراق، والأسباب التي زرعها الاحتلال الأميركي للعراق في 2003، عاملان مهمان في قدرة التنظيم على البقاء وتجديد نفسه وتنفيذ مزيد من الهجمات.
والآن، يشعر شباب عراقيون باليأس، وكذلك أعضاء الحكومة أنفسهم؛ بسبب الفساد المتفشي بطريقة لا يمكن احتمالها، وقدرة تنظيم الدولة على رشوة مسؤولين أمنيين وعسكريين لنقل المتفجرات والانتحاريين.
مؤشرات التفجيرات
ومثل هذه الهجمات تثير القلق لأسباب؛ فمن المرجح أن قيادات التنظيم يعملون الآن من خلف الكواليس وبعيدًا عن الرادار، فالهجمات التي يقودها أفراد تابعون له لا بد وأنها نتيجة أوامر عليا وبتنسيق مع الخلايا النائمة.
وتوضّح الهجمات أيضًا أنّ خلايا جديدة للتنظيم تشكّلت وتتصرف حاليًا نيابة عنه، وهذا احتمال مثير للقلق؛ فلا يزال التنظيم يتمتع بتأييد من السكان المحليين، وهو أمر ضروري لإجراءاته الأمنية والوصول لمعلومات أساسية وحيوية، وتهيئة الظروف المناسبة لإطلاق مزيد من الهجمات الجارية والمستقبلية.
وقد تكون مؤشرًا أيضًا على وجود تنسيق بين فروع التنظيم في أماكن مختلفة من العالم واستمرار انضمام حلفاء أيديولوجيين محليين إليه.
وكذلك تشير الهجمات إلى وجود «إرهابيين» ما زالوا على قيد الحياة داخل العراق تمكّنوا من المناورة في ساحات قتاله، وأيضًا في سوريا. وفي حالة العراق، فالتنظيم له جذور ممتدة منذ الغزو الأميركي في 2003 وظهور تنظيم القاعدة. وفي مقابلات صحفية وتلفزيونية مختلفة مع «إرهابيين» مودعين في سجون العراق، وجد أنّ لهم جذورًا تمتد إلى عشر سنوات على الأقل.
كما تثير هذه الهجمات مخاوف جدية بشأن قدرة الحكومة العراقية على منع الهجمات الإرهابية المستقبلية للخلايا النائمة. ومع اقتراب الانتخابات، لا يزال التنظيم لديه القدرة على تشويه سمعة الجهاز الحكومي والمسؤولين المرتبطين به، إضافة إلى الكشف عن أوجه القصور؛ لا سيما الممارسات الفاسدة.
سبيل الرشوة
وفي الوقت نفسه، لا يتورع المسؤولون العراقيون أنفسهم عن توجيه اتهامات لبعضهم بعضًا بالفساد؛ خاصة في ظل استمرار قدرة التنظيم «بعد هزيمته» على نقل المتفجرات والانتحاريين بسهولة عبر نقاط التفتيش الأمنية، كما أثيرت جدالات أيضًا عن عجز الحكومة على حماية المسؤولين من استهداف الإرهابيين لهم، إضافة إلى الإرهابيين الذين أطلق سراحهم من السجون عبر دفع رشاوى للسلطات.
وهناك انعدام عميق للثقة العامة تجاه المؤسسات السياسية والإدارية في العراق، خاصة بين الشباب العراقي. وقال طالب عراقي تحدثت معه الصحيفة إنّ «الفساد مستشرٍ في جميع الوزارات والمؤسسات، وبتوصية واحدة من نائب برلماني، بعد دفع مبلغ مالي كبير رشوة، يمكنك العمل في أي مكان تريده؛ حتى لو وزارة الاستخبارات، وهذا هو السبب في وصول ذكائنا للحضيض».
تحديات رئيسة
وسلّطت الهجمات الإرهابية الأخيرة في العراق الضوء على التحديات الرئيسة التي تواجه القوات العراقية في التعامل مع الإرهاب بعد تحرير الدولة من «تنظيم الدولة»؛ إذ توضح أنّ «الإرهابيين» يُدرّبون في مناطق نائية في الدروب الصحراوية بالعراق بعيدًا عن أعين الأجهزة الحكومية، وعلى هذا النوع تحديدًا من الحروب «الهجمات المباغتة؛ ومن ثم الهروب أو الكر والفر».
وبينما يثق المسؤولون العسكريون والحكوميون العراقيون في قدرتهم على التعامل مع الإرهاب، يستمر التنظيم في إطلاق مزيد من الهجمات الإرهابية في البلاد؛ بالرغم من التدابير القوية لمكافحته. لكنّ «الفساد الحكومي والتقدم التكنولوجي الذي يمتاز به التنظيم حاليًا أعطياه الفرصة لتجنيد مزيد من الشباب، سواء عبر منصات التواصل الاجتماعي أو بطرق أخرى؛ ما يمثّل تحديًا كبيرًا لجميع حكومات العالم وليس العراق وحده».
ونشر باحثون من «المركز الأميركي لمعلومات حقوق الإنسان» في ديسمبر الماضي مقاطع فيديو لمنشقين وسجناء وعائدين من التنظيم ينتقدون فيها «المؤتمر الدولي لمكافحة إعلام تنظيم الدولة»؛ وهو ما يشير بقوة إلى أنهم ما زالوا مصرين على آرائهم.
واستضاف العراق المؤتمر الثالث بالشراكة مع وزراء دفاع 12 دولة من التحالف، وكان بمثابة منصة مهمة لمناقشة النجاحات الأخيرة ضد التنظيم في العراق؛ بما في ذلك تبادل الأفكار والخبرات والاستراتيجيات الإقليمية، والتأكيد على الحاجة لمكافحة الإرهاب في جميع أنحاء العالم وليس المنطقة وحدها.
أيديولوجية قوية
وكما أكّد حاضرون، فأيديولوجية التنظيم ما زالت قوية بالرغم من الخسائر الإقليمية الكبرى في العراق وسوريا، إضافة إلى أنّ تجربته الاجتماعية ما زالت موجودة بقوة في عقول الشباب العربي؛ خاصة العراقيين، وتمكّن التنظيم أيضًا من بناء شبكات محلية أثبتت صعوبة في اجتثاثها، فضلًا عن الانتشار الدولي واستمرار إلهام المهاجمين عبر أنحاء العالم.
كما يستفيد التنظيم بشكل أو بآخر من اليأس المنتشر بين فئات الشباب، وقدرته على بيع الأمل لهم، وإيهامهم بأنّ الهجمات الانتحارية تقودهم إلى مكان أفضل من الحالي.