قارنت الكاتبة سمية الغنوشي، بين الليبرالية الحقيقية بمنعناها السياسي وحاجتنا إليها، والليبرالية الراهنة والمرتبطة باسماء بعض المثقفين والكتاب والسياسيين، ممن «سخروا أقلامهم وألسنتهم لتجميل أنظمة حكم».
وقالت الغنوشي، في مقال نشره موقع «عربي21»: «ربما تكون كلمة ليبرالية قد اكتسبت معنى سلبيا في الثقافة العربية الإسلامية لاعتبارات كثيرة، بعضها يتعلق بالماضي القريب وبعضها الآخر يتعلق بالحاضر الراهن».
وأوضحت أن «الليبراليات السياسية في العالم العربي بحكم الملكيات التقليدية طليعة القرن الماضي؛ حيث كان الملوك والأمراء (الليبراليون) مجرد أدوات طيعة بيد المستعمرين الإنجليز والفرنسيين، وكانت الأحزاب السياسية تغرق في صراعاتها ومؤامراتها الصغيرة، بعيدا عن الشعب المثقل بآفات الفقر والجهل والمرض»، لافتة إلى أنه لذلك «تم طَي صفحة هذه الحقبة الليبرالية في العالم العربي، في إطار موجة من الانقلابات العسكرية منذ خمسينيات القرن الماضي في مصر وسوريا والعراق، في إطار من المد الوطني والقومي ذي النفس الاشتراكي».
وقارنت الكاتبة، بين الليبرالية بمعناها الحقيقي، والمعروفة حاليا والتي وصفتها بـ«أشباه الليبراليات»، موضحة أنها «ارتبط اسمها ببعض الكتاب والمثقفين والسياسيين الذين يوصفون تجاوزا بكونهم ليبراليين، ممن سخروا أقلامهم وألسنتهم لتجميل أنظمة حكم لا تتوفر على الحد الأدنى الليبرالي، وينحدر عدد كبير من هؤلاء من عائلات أيديولوجية يسارية، ولكنهم خيروا تغيير مواقعهم الأيديولوجية مائة وثمانين درجة، بعد سقوط المنظومة الشيوعية من موسكو باتجاه العواصم الغربية الكبرى».
وتابعت: «هؤلاء في الحقيقة أقرب ما يكون إلى ما يمكن تسميتهم بالسلطويين الجدد أو السلطويين المتحذلقين أكثر من الليبراليين؛ حيث يعملون على توفير غطاء فكري وسياسي لحكومات إطلاقية فردية تحتاج إلى تسويق نفسها في الخارج بلغة حداثوية ليبرالية، وهم يقومون بهذه المهمة على أحسن وجه ممكن، وهذا حالهم في مصر وبعض بلدان الخليج العربي اليوم مثلا».
أما على الصعيد الاجتماعي، فقد ارتبط اسم الليبرالية بالخيارات الاقتصادية المجحفة بحق الطبقات الوسطى والفئات الضعيفة من المجتمع، في إطار توجهات الليبرالية الجديدة القائمة على الخوصصة وهيمنة الرأسمال على حساب القطاع العام.
واعتبرت الغنوشي، أن «الكثير من النخب التي تدعي الليبرالية قد أحاطت نفسها بهالة من الترف والوجاهة الاجتماعية، في محيط من الفقر والشعور بالحرمان، بما أعطى لكلمة «ليبرالية» معنى سلبيا في الوعي العام».
ورأت الكاتبة، أن مصطلح «الليبرالية» يحتاج في الوقت الحالي إلى «إعادة غربلة»، وما علق به من تشويه وتحريف، وإجلاء بعض من معانيه المغيبة التي نحتاجها اليوم كعرب ومسلمين أشد الحاجة.
وأردفت: «ما أقصده بالليبرالية هنا على وجه التحديد، هو دلالتها السياسية، بما هي الحكم المقيد بسلطة القانون الذي يحترم فصل السلطات واستقلال الإعلام والصحافة وضمان التداول السلمي على السلطة، في إطار النظام الديمقراطي المتعارف عليه».
وأوضحت أن «الليبرالية في معناها الفردي والاجتماعي، فهي تعني حرية الاعتقاد والتفكير وحق الناس في اختيار الملبس والذوق واحترام خصوصيات الناس وخياراتهم الفردية والجماعية، في كنف دولة محايدة وتعدد لأنماط الحياة ضمن مجتمع تعددي مفتوح».
واستدركت «أن نقول دولة محايدة، فهذا لا يعني أن الدولة لا تلتزم باحترام ثقافة المجتمع وقيمه العامة من تسلط أقلية معينة، مثلما أن من واجبها حماية حقوق الأقلية من الانتهاك والعدوان»، لافتة إلى أن «هُوية الدولة تكتسب من خلال هوية المجتمع العامة، ولكنها لا تتخذ طابعا إكراهيا تدخليا، سواء باسم الدين أو باسم العلمانية».
وأضافت «بهذا المعنى، فإن مهمة الدولة هي تنظيم شؤون المجتمع وضمان سلامته العامة، وليس إعادة هندسة المجتمع والتحكم فيه بصورة فوقية بأي ادعاءات علمانية أو دينية».
وأعطت الكاتبة مثلا، على الليبرالية المطلوبة، وقالت: «ليس من حق الدولة أن تتدخل لفرض الحجاب باسم الإسلام مثلا، كما ليس من حقها نزعه أو منعه باسم اللائكية. وبهذا المعنى يمكن القول بأن الدولة الإسلامية التدخلية أو الدولة اللائكية لا توفر الجواب المناسب هنا»، مردفة: «نعم، هناك حاجة ماسة في العالم الإسلامي لإشاعة قيم الليبرالية، سواء على صعيد أنظمة الحكم أو الثقافة العامة، في أجواء شيوع أنظمة الحكم السلطوي وانتشار ثقافة العنف والتعصب».
وأوضحت أن «العالم الإسلامي عامة، والعربي منه على وجه الخصوص، يعاني من أنماط حكم تسلطية بعضها يتغطى بعباءة الدين والشريعة، وبعضها الآخر يتجمل برداء الحداثة والعلمانية والليبرالية وما شابه ذلك، مضيفة «إن مناهضة هذه السلطويات باسم الإسلام غالبا ما يؤدي إلى تعزيز وضعها وتقوية أنيابها أكثر، لأنها تضع نفسها في خانة الدول المستنيرة والحليفة للغرب، في مناهضة التطرّف والتعصب الإسلامي».
وقالت الغنوشي: «إن العالم الإسلامي في أمس الحاجة إلى نزعة ليبرالية أصيلة، تحيي جذوة الحرية المتأصلة في روح الإسلام، وما كان مشعا وملهما في تجربته التاريخية من تعددية الاعتقاد وحرية التفكير الديني والفلسفي، وهي النزعة التي حاولت الحركة الإصلاحية إحياءها وتجديدها منذ مطلع القرن الـ19، قبل أن تنكسر الموجة بفعل الاجتياح الاستعماري الغربي، ثم صعود أنظمة الحكم الفردية والتسلطية».
وأضافت أن «ضعف التوجهات الليبرالية في العالم الإسلامي مرده الإخفاق التاريخي الذي يعانيه المسلمون نتيجة وطأة التدخلات العسكرية الخارجية واستفحال الأزمات الداخلية والحروب الأهلية التي تغذي كلها ثقافة الخوف والتوجس وقيم التعصب والعنف».
وتابعت: «الإسلام يعلن صراحة، ومن دون مواربة، حرية الاعتقاد والتفكير ورفض أي شكل من أشكال الإكراه في الدين والمعتقد «لا أكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي» «من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر»، فكما أن حق الإيمان مكفول، فكذلك الحق في الكفر والإلحاد».
كما «يعلن الإسلام أنه ليس من حق أحد التدخل في الحياة الخاصة للناس وخياراتهم الحرة «ولا تجسسوا»، كما يدعو إلى احترام معتقدات الناس وخياراتهم وإلى المجادلة بالتي هي أحسن وأقوم «وجادلهم بالتي هي أحسن».
أما تلك القيود التي تضمنتها المنظومة الفقهية التقليدية إزاء الأقليات والمرأة وغيرها، فهي في الحقيقة مجرد آراء واجتهادات مرتبطة بروح عصرها، وليس هناك ما يلزم الأخذ بها أو تبنيها، من قبيل مفهوم أهل الذمة، ومسألة الردة، والعقوبات البدنية وغيرها. كلها قضايا اجتهادية تاريخية يتوجب النظر إليها بعين ناقدة ومتوازنة من دون تحقير أو تبجيل.
أما مسالة السلطة والحكم، فيمكن البناء على البذور الأولية والمهمة التي زرها الإسلام. ومن ذلك نزع القداسة الدينية عن الحاكم، وكيلا عن المصلحة العامة لا أكثر، وكذلك اعتبار الحكم إطارا مدنيا قائما على مبدأ التعاقد بين الحاكم والمحكوم لا غير.
أما على الصعيد الواقعي، فتتلخص أم المعارك الكبرى في العالم الإسلامي في جانبين اثنين، أولهما النزعة التدخلية النشطة التي يعاني منها الأفراد والمجتمع في ظل دول تحكمية، وثانيهما البعد التسلطي والاستبدادي لأنظمة الحكم.
وأوضحت «هذا يعني أن إحدى أهم الأولويات تتعلق بإدخال نزعة ليبرالية إسلامية على الصعيد الفردي والجماعي، ثم أنسنة أنظمة الحكم المتوحشة، من خلال تقييدها بسلطان الدستور والقانون وتعددية السلطات، واحترام استقلالية القضاء والصحافة والمجتمع المدني وغيرها».
ولفتت إلى أنه «أما على الصعيد الاقتصادي، فالليبرالية ليست مغرية برأيي، وربما كنّا في أمس الحاجة إلى نمط من الليبرالية المتوازنة والمهذبة بالعدالة الاجتماعية، في أجواء التفاوت الطبقي وحالة الحرمان والفقر التي تنخر المجتمعات الإسلامية».
واستدركت: «ولكن مع ذلك، تظل الليبرالية الفكرية والسياسية الرد الأفضل على السلطويات المتوحشة والليبراليات العربية المشوهة. إن ليبرالية أصيلة ومنفتحة هي الخيار الأفضل للإسلام والعصر على السواء».