نشرت صحيفة «ميدل إيست آي» مقالًا لـ«كوري كريدر»، الناشطة بمنظمة «ريبريف» الحقوقية وممثلة معتقلي جوانتانامو، عن كيفية نجاح ترامب في إلهاء الأميركيين ومتابعيه عمومًا بتغريداته عن مصائب بلده على أرض الواقع؛ كتعذيب سجناء في سجون يموّلها الأميركيون، وضربات الطائرات دون طيار التي قتلت مدنيين أضعاف الأعوام السابقة لتوليه الحكم؛ خصوصًا في الشرق الأوسط، مسلّطة الضوء أيضًا على التفويض الأخير الذي منحه للجيش والاستخبارات الأميركيين بتولي سياسة مكافحة الإرهاب والتطرف، مؤكدة أنّه أمر غير صحي لأي ديمقراطية في العالم.
وأضافت، وفق ما ترجمت «شبكة رصد»، أنّ الدرس الأول الواجب أن يتعمله الجميع بعد وجود ترامب في السلطة لمدة عام أنّه «إذا ركّزنا مع تغريداته فستضيع أعيننا كراته»، فتغريداته مشتتة للانتباه عما يحدث بالفعل، كما في «العالم الغامض لحروب أميركا العالمية ضد الإرهاب»، وهي المنطقة التي ركّزت عليها التقارير الإعلامية الرئيسة قبل أن تنصرف عنها فيما بعد إلى تغريداته.
ولو أخذنا خطابه الأخير عن «الوحدة» مثالًا، فترامب تحدّث قليلًا عن مكافحة الإرهاب في الخارج؛ باستثناء تعهّده بإبقاء معتقل جوانتانامو مفتوحًا. لا يهم، إنها مجرد قطعة لحم من أسفل طبق ترامب، فالمعتقل ما زال مفتوحًا على أيّ حال، وترامب ليس في حاجة إلى أمر تنفيذي جديد لإبقائه مفتوحًا؛ لكنّ التأثير الوحيد المحتمل هو مساعدة المحاكم للمحتجزين في الاعتراض على مدد الاحتجاز التي لا نهاية لها.
مجنون البلاغة
ما ذكرتُه مجرد مثال من مشكلة كبرى وأوسع؛ فالمختبئ وراء خطاب «ترامب المجنون» هو الحقيقي. ويؤكّد مضمون خطابه أنّه سلم مفاتيح سياسة مكافحة الإرهاب للوكالات العسكرية ومكاتب الاستخبارات، مع تنبؤات بخسائر مدنية؛ وهذا التغيير حدث بعيدًا عن أعيننا ولم يُناقش، بل تعمدوا إخفاءه.
التغيير بدأ مبكرًا؛ ففي يناير 2017 قتلت غارة غير دقيقة للبحرية الأميركية عشرة أطفال يمنيين تحت سن الـ13 عامًا، ولم يبلغ أحد عن ذلك؛ بالرغم من أنها أحد أنواع القصص الصحفية الكلاسيكية التي يهتم بها الجميع، وفيها سمعنا أيضًا أنّ صبيا يبلغ من العمر خمس سنوات نجا، وأكّد أنّ الرصاصات كانت قادمة من الخلف، وكيف قتلت والدته وهي تهرب؛ وهو ما يؤكد أنّ ضربهم كان متعمدًا. لكن، بالرغم من ذلك، القصة لم تُغطّى باستحقاق في الولايات المتحدة.
وذكرت «الأسوشيتدبرس» في تقرير مسبق لها عن السجون السرية في اليمن أنّ فيه سجونًا تُعذّب سجناء بتمويل من الولايات المتحدة. هذه القصة الرئيسة كانت لتصبح عناوين رئيسة في صحف العالم لو كانت إبان رئاسة جورج بوش، أما النموذج الرئاسي الحالي والقائم على دعم الشركاء الأجانب والقيام بأعمال الولايات المتحدة القذرة يجعل القصة أقل تشويقًا وإثارة.
وحينما سئلوا، همس المسؤولون الأميركيون في أذن الصحفيين بأنّ سلطتهم الجديدة في صالح الجميع. وفي تقرير نشرته «نيورويك تايمز» عن تخفيف القيود على بيع الطائرات دون طيار للوكلاء والحلفاء الأجانب، نقلت عن مصدر مجهول قوله إنّ ما حدث مجرد استبدال للقواعد الخاصة بالطائرات دون طيار وغاراتها، وأيضًا توسيع لتعريف الولايات المتحدة للأهداف التي يمكن ضربها، كما هو الحال أيام أوباما؛ لكنها حاليًا بوضوح أكثر وبيروقراطية أقل.
عشرات المدنيين تحت القصف
والواقع أنّ هذه القواعد الأقل بيروقراطية تسببت في مقتل العشرات من الأبرياء؛ ففي الشهر الماضي ذكرت صحيفة «الجارديان» أنّ الطفرة في الضربات الجوية الأميركية في الصومال أسفرت عن مقتل عشرات المدنيين، بالرغم من معاناة المدنيين الصوماليين من موجات العنف الإرهابية؛ إذ قتل أكثر من 500 شخص في انفجار واحد أواخر العام الماضي.
وبالرغم من ذلك، لم يُثِر أحدٌ أثناء مؤتمر ترامب التساؤل عما إذا كان القصف العشوائي سيقلل من التهديد الإرهابي أم سيزيده. وإسناد سلطة مكافحة الإرهاب وسياستها إلى الجيش ووكالة المخابرات المركزية بالتأكيد سيزيدانه؛ وهذا هو «الاتجاه الأميركي الواضح في العالم الإسلامي حاليًا»، فهو عبارة عن مجمع عسكري استخباراتي غير مقيد، وازدياد العنف الأميركي فيه لن يمثل مشكلة.
أيضًا، نشرت «نيويورك تايمز» تقريرًا عن معركة الموصل ذكرت فيه أنّ أعداد القتلى المدنيين في الغارات الجوية أكبر بـ31 مرة من الأعداد التي أعلن عنها التحالف الأميركي، كما تظهر إحصاءات جمعها مكتب الصحافة الاستقصائية أنّ العام الأول لترامب في الحكم شهد مضاعفة في الضربات المضادة للإرهاب عمومًا، وتضاعفت لأكثر من ثلاث مرات في دول مثل اليمن والصومال.
وبالرغم من أنّ الطائرات دون طيار كانت مشكلة إبّان ولاية أوباما، وبالرغم من أنّ أعداد قتلى المدنيين بسببها أقل من الحالية؛ فإدارة أوباما دأبت على إرسال تعازٍ مرفقة بتعويضات للضحايا، وسنّ قواعد جديدة تجعل الضربات أكثر هدوءًا وأخف وطأة على المدنيين. والآن، يمكننا أن نتوقع حكايات بالآلاف عن الأسر المكلومة والناجين.
بينما يدافع البعض في هذا السياق بأنّ السياسة الخارجية الأميركية يحمل زمامها جنرالات؛ لذلك سيكون ترامب مقيّدًا من قبل أولئك القادرين على اتخاذ القرارات السليمة. لكن، هذه حجج تجلب الشعور بالراحة فقط؛ فتخلي الرئيس الأميركي عن سياسة مكافحة الإرهاب للجنرالات والوكالات الاستخباراتية الأميركية غير صحي لأي ديمقراطية في العالم.
سرقة حق الأخبار الحقيقية منا
عجزُنا عن الاهتمام بالسياسة الخارجية اهتمامًا حقيقيًا يرجع إلى ما فسرته صحيفة «نيويورك تايمز» في تقرير لها عن الصراع ضد تنظيم الدولة بـ«أنها الحرب الأقل شفافية في التاريخ الأميركي الحديث». و«أصبح من السهل أن يحدث هذا؛ خاصة إذا رأينا كيف تُغلق مكاتب صحفية وتعلن صحف عن إفلاسها، وتركز على تغريدات ترامب عن الصراع مع كوريا الشمالية ومع روسيا واعتبارها مسائل مهمة، متجاهلة الجانب الدموي لأميركا في مناطق أخرى».
في النهاية، حاول ترامب «سرقة الأكسجين من أخبارنا الحقيقية» ونجح في ذلك؛ داعية إلى ضرورة تجنّب التركيز على تغريداته والعمل على وجود صحفيين في الميدان ينقلون الصورة من على الأرض.