تتجه بعض دول الخليج إلى انتهاج نوع من الليبرالية الجديدة على صعيد الثقافة والاقتصاد، ولكن من دون ليبرالية على مستوى السياسة وشؤون الحكم.. بل إن هذه الليبرالية الثقافية والاقتصادية يتم اللجوء إليها هروبا من الاستحقاق السياسي وإضفاء جرعة من الليبرالية السياسية.
ولعل الوجه الصارخ لهذه المفارقة بين نزوعٍ نحو الانفتاح الثقافي وتصميمٍ على الانغلاق السياسي نراها أشد ما يكون في المملكة العربية السعودية اليوم وبعض دول الخليج الأخرى مثل الإمارات والبحرين.
بعد عقود طويلة من سياسة الانغلاق الديني التي انتهجتها السعودية منذ تأسيسها، ها هي تنفض عنها إرثها الوهابي الثقيل وتنحو نحو نمط من الليبرالية في الثقافة والاقتصاد، فارضة انعطافة حادة وسريعة على الجهاز الديني نفسه الذي كان ذراعها في فرض الانضباط الداخلي والترويج الأيديولوجي الخارجي.
فقد بات مألوفا أن يتدخل رجال الأمن السعودي لاقتياد رجال المطاوعة (عناصر ما يعرف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) الذين هم بمثابة البوليس الديني ومنعهم من التدخل في احتفال فني أو ثقافي معين كما اعتادوا.
وقد تمكنت نخبة من “الليبراليين” السعوديين تدريجيا من تصدر المشهد السياسي والثقافي السعودي، بدلا من شيوخ الوهابية الذين ما عادت بضاعتهم مرغوبا فيها، وباتوا عبئا على الدولة، لا تتجاوز الحاجة إليهم حدود مراسم أداء البيعة والولاء للحكام الجدد.
في مشهد غير معهود اعتلى الشاب خالد الركح في مدينة الرياض وسط جمهور غفير تمايل يمنة ويسرة على أنغام موسيقى الراي الجزائري. وقبله جلبت هيئة الترفيه الممثل الأمريكي جون ترافولتا كي تلتقط معه فتيات السعودية صور السلفي فرحات جذلى، بدل تلك الوجوه المعهودة المتوارية خلف الحجب السود..
جميل جدا أن يُسمَح للمرأة السعودية بقيادة السيارة، وجميل جدا أن يُسمَح بتنظيم الأنشطة الثقافية والفنية في الملكة العربية السعودية وأن يتاح للمرأة دخول الحياة العامة وتُرفع القيود والموانع التي فرضت عليها عبر قراءة متشددة للإسلام.
ولكن ما هو أجمل من كل ذلك؛ أن يكون هذا الانفتاح الفجائي مصحوبا بانفتاح سياسي، بدل الذهاب في الاتجاه المعاكس تماما.
ما يجري لا يجب أن يحجب عنا حقيقة واضحة، وهي أن السعودية بأيديولوجيتها الدينية المتشددة هي التي صنعت لنفسها قبل غيرها هذه المعضلات والمطبات التي تحاول التخلص منها الْيَوْمَ. ليس صحيحا أن هذا التشدد دخيل على السعودية، بل هي من كانت الأصل والمنبع لهذه التوجهات في العالم الإسلامي.
إلى وقت قريب؛ كانت تيارات الإسلام السياسي التي تُتَّهم بأنها “أس” البلاء في السعودية تُكفَّر لأنها لا تقول بتحريم سياقة المرأة للسيارة، وتقول بأن الديمقراطية لا تتعارض مع الإسلام.
كل دول العالم الإسلامي تنظم الاحتفالات الثقافية والمهرجانات الفنية وتشارك نساؤها في سائر المناشط العامة. ولكن المشكلة أن من كانوا يستنكرون مجرد سماع الموسيقى ويحرمون قيادة المرأة للسيارة ويمارسون أقصى أنواع التقييد والحجب ضد المرأة هم أنفسهم من انقلب بفعل فاعل على ما كانوا يروّجون له.
لقد استهلك شيوخ الخليج الكثير من طاقتهم في معارك شرسة ضد المرأة، وضد حقوق الأقليات، وضد بقية المذاهب الإسلامية، وضد فكرة الدستور والديمقراطية، وضد كل شيء، في إطار أيديولوجيا وهابية متشددة خارج الزمان والمكان، وسخّرت لهم الدولة منابر المساجد والفضائيات وأغدقت عليهم الأموال ليروجوا هذه القراءات الدينية المتشددة في كل أرجاء العالم الإسلامي وخارجه.
واليوم تنقلب على نفسها بسرعة البرق وتمسح أيديها متبرمة من هذا الميراث الهائل للتشدد الوهابي الذي صنعته ونشرته على امتداد عقود متتالية..
وإذا كان التطور والانفتاح محمودين في عصر لا يحتمل سياسات الانغلاق والتعصب، فإن ما لا يقل سوءا هو هذا التطور العشوائي الفجائي وغير المتوازن، من بلد يمنع المرأة من الاختلاط حتى في أقدس بقاع الأرض في الحرم المكي الشريف؛ إلى خروج فتيات ونساء السعودية الجديدة في حفلات صاخبة متمايلات على أنغام الموسيقى.
تحتاج هذه المسافة الضوئية إلى معجزة خاصة لقطعها والعبور إلى الضفة الأخرى من دون هزات وارتجاجات، في واحد من أكثر المجتمعات محافظة في دول العالم.
نحن إزاء تناقض صارخ بين ليبرالية ثقافية آخذة في التشكل جنبا إلى جنب مع نمط من الليبرالية الاقتصادية (تجلى في الاتجاه لخصخصة كبرى مؤسسات الدولة، حتى في قطاع الطاقة المحوري لاقتصاد قائم على المحروقات، مثل شركة أرامكو) يقابلهما غياب مطلق للحد الأدنى من الليبرالية السياسية التي تتعلق بإدارة الحكم وشكل السلطة.
لقد بدأت السعودية بمغامرة الانفتاح الديني والثقافي عبر بوابة عروض الموسيقى والأفلام والسهرات الفنية والسماح للسعوديات بدخول مدارج الملاعب الرياضية، فلم إذن لا تستكمل هذا المسار الثقافي والاجتماعي بالحلقة الأهم “الانفتاح السياسي”، فتكون أكثر انسجاما مع روح العصر وقيم العالم؟!
التحول باتجاه الحكم المقيد بدستور وضمان التداول على الحكم وتوزيع السلطة واحترام حقوق الناس والكف عن الاعتقال التعسفي والاعتداء على الحرمة البدنية والمعنوية للمواطنين؛ هي المقياس الرئيس لدرجة الانفتاح والتحرر، والعلامة الأهم في الليبرالية التي ينشدها فريق الحكم الجديد.
إن مدى صدق التوجه السعودي نحو “اللبرلة” والتحرر إنما يقاس بمدى القدرة على “لبرلة” الحقل السياسي أولا وقبل كل شيء. ومن دون ذلك ستكون ليبراليةً مزيفة مخادعة لا تضع نصب عينيها إلا شراء حماية الغرب أو في الحد الأدنى شراءَ صمته.
كتب الباحث اللبناني المعروف غسان سلامة بأن أحد أكبر المعضلات التي لازالت تواجه العرب اليوم هي وجود ديمقراطية من دون ديمقراطيين.
لكن يبدو أن الأقرب لواقع العرب هو غياب الديمقراطية حتى في حال وجود ديمقراطيين، وغياب الليبرالية في ظل وجود ليبراليين أو أنصاف ليبراليين..
فلو كان المشكل يتعلق بندرة الديمقراطيين لهان الأمر، لأن النظام الديمقراطي كفيل بإنتاج ديمقراطيين، أما الديمقراطيون فإن وُجِدوا فليسوا قادرين بمفردهم على صنع الديمقراطية، لسبب بسيط هو أن المنظومة الديمقراطية يمكن أن تصنع ديمقراطيين، أما الديمقراطيون فلا يصنعون بالضرورة ديمقراطية بمجرد تطلعهم نحو الديمقراطية أو إيمانهم بفضائلها. المنظومات السياسية أكبر من إرادة الأفراد.
وحتى يكون التوصيف أدق في الحالة الخليجية؛ فإنه يمكن القول بأن وجود أنصاف ليبراليين يثرثرون في مجالسهم الخاصة والعامة لا يصنع بالضرورة ليبرالية، بل يفرز تسلطية جديدة بطلاء ليبرالي.
من الواضح أن ملكيات الخليج تحث الخطى صوب ضرب من السلطوية الليبرالية القائمة على نمط من التحررية الشكلية في مستوى الثقافة والاقتصاد، ضمن انغلاق سياسي غير مسبوق.
الأمور تتجه نحو استنساخ نموذج بن علي ومبارك، أي نوع من الليبرالية التي تقوم على صناعة طبقة جديدة من رجال المال والأعمال مرتبطة بأهل الحكم، مع جرعة من الانفتاح الثقافي تختزله في الرقص والغناء والطرب والسهرات الصاخبة، في أجواء من الانغلاق السياسي، بل القهر السياسي.