نشرت شبكة «الجزيرة» مقالًا للكاتب والأديب الإيراني حميد الدباشي عن الفنون الإسلامية الماضية وما تمثّله من ازدهار لحضارتها. ورأى، بعد زيارته متحف الفن الإسلامي في قطر، أنّ هذه النقاط غابت عن السعودية في الماضي وستغيب عنها في المستقبل إذا استمرت في أفعالها. وشرحت اللوحات والأعمال في المعرض الماضي الإسلامي العريق والبعيد كل البعد عما يحدث في المنطقة حاليًا.
وإلى نص المقال:
في وقت مبكر من مساء يوم الاثنين، رافقت صديقين -أحدهما مصري- في متحف الفن الإسلامي بالدوحة، وسألت نفسي: «ما الذي يخشاه السعوديون؟».
وأثناء وصولنا كان هناك معرض منفصل بعنوان «نسيج الإمبراطوريات»، عن الزخارف والحرفيين بين تركيا وإيران والهند، وتجوّلنا داخل المعرض ووجدت هناك ما يخشاه السعوديون بالضبط.
لم يكن داخل المعرض إلا ثلاثتنا: اثنان مسلمان (سني وشيعي) وآخر مسيحي؛ مثّل كلٌّ منا تاريخًا من الفنون والحِرف مختلفًا عن الآخر.
منذ مدة طويلة أُعجبت بمؤسسات فنية في الدوحة، وأتيحت لي فرص حضور مناسبات نظمتها السلطات القطرية لقطع أثرية من مختلف أنحاء العالمين العربي والإسلامي، دون أيّ إحساس بالتحامل الطائفي أو الإثني.
وأتيحت لي أيضًا فرص حضور أكثر من مناسبة للاحتفال بمؤسسات فنية رائعة أخرى في الدوحة؛ مثل متحف الفن العربي الحديث، الذي شمل مجموعة من أرقى فنون العرب المعاصرة، ودُعيت أكثر من مرة لإلقاء محاضرات نقدية داخلها؛ وفي كل مرة أتجوّل فيها داخل أيّ معرض أشعر أنني في منزلي.
إضافة إلى ذلك، تعرض صالات المتحاف برامج فنية مختلفة، تُشعرك بأنّ الدوحة أرض شاملة لجميع أنواع الفنون المعاصرة والحديثة والإسلامية عبر الزمن والقارات، وتشرح الكيفية التي جعلت بها الدوحة لنفسها مكانة بين العواصم العربية.
وظيفة المتاحف
لدى وصولنا إلى معرض نسيج الإمبراطوريات، أدركت أنني بين أيادٍ قادرة على التعلّم والرعاية والكفاءة، والوصول إلى العالمية.
الجزء الأول من المعرض مُخصّص لعرض لوحات عن الفن الصفوي المعاصر، والفنون الحرفية الخاصة بالصفويين، تخيّل! وعلى بعد مئات الكيلومترات يتحوّل مصطلح الصفويين إلى لعنة «في السعودية». وفي قطر، هو بداية دخول مرحلة جديدة لواحدة من أكثر المراحل المجيدة للتاريخ الثقافي الإسلامي.
دعونا نتخيّل أنّ ولي العهد محمد بن سلمان، رفيق جاريد كوشنر وتوماس فريدمان، قرّر السماح بالاحتفال بأسرة حكمت على مدى قرون إيران بعظمة وقسوة ومجد وحب وإعجاب. ثم تتقدم خطوات لتصطدم بالقطع الأثرية التي تعود إلى الفنون العثماني والمغولي والهندي، والقطع الفنية التي صكّها حرفيون من الهند وتركيا وإيران، وكذا عرض للمدة التي حكمت فيها سلالة مسلمة من أصل تركي إيران!
ثم يطلعنا المتحف أيضًا، من الخطوط البارزة المتوسطة على السجاد، عن هذه الحضارات وما مثّلته حينها، إضافة إلى المخطوطات والأعمال المعدنية والسيراميك الأخرى.
هذا التاريخ الفني له من المنطق والبلاغة التي تتحدّث عن نفسها، بداية من المدة التيمورية في إيران وآسيا الوسطى بين 1370 و1507 ميلاديًا، وللعثمانيين في تركيا من 1299 لـ1923 والمغول في الهند من 1526 إلى 1857.
ويمثّل التاريخ الإسلامي هذا رؤية بانورامية متكاملة، بينما يقع على بُعد بضعة مئات الكيلومترات ثمانية ملايين مسلم في اليمن على حافة المجاعة؛ فكيف ورثنا هذا التاريخ الإسلامي ثم ينتهي بنا المطاف إلى ما نحن عليه اليوم؟!
استعادة الماضي القوي
لا شيء مما ذكرته يمثّل حنينًا للماضي؛ فالحنين إحساسٌ في غير محله لإمبراطورية إسلامية مفقودة، لكنه يذكّرنا بأنه لا توجد دولة في المنطقة العربية الآن لديها جزء من هذا المجد في الوقت الحالي.
ويذكّرنا أيضًا بأنّ هناك أمّة بأكملها محاصرة (قطر) من أجل عشيرة سعودية لا تخدم سوى مصالحها فقط وتسير بشكل منهجي على أهواء أميرها محمد بن سلمان.
ما نشهده حاليًا في جميع أنحاء العالم الإسلامي «معركة على روح الماضي الإسلامي المفقود»؛ لكنّ السعودية تمثّل هدمًا لمستقبل هذه الأمة، فالنخبة الحاكمة فيها تجمع الثروة والسلطة؛ في تكريس للنزعة العسكرية العنيفة والتعصب المتعمد، وهي إسلاموية لا بد أنّ الزمن عفا عليها.
ويمثّل عدوها من الناحية الأخرى النظام الحاكم في جمهورية إيران الإسلامية، لكنه نظام أكثر ذكاء من النظام السعودي؛ فهو يعمل على احتضان جزء من أفضل ما كان في الماضي الإسلامي، من أجل مستقبل إسلامي أكثر حرية، وما يحدث في معرض الفن الإسلامي بالدوحة انعكاسٌ لهذه الرؤية الإسلامية المناقضة للخوف والتعصب؛ فهي أمة منفتحة وسخية وأكثر غفرانًا، وجاهزة لا حتضان الماضي الذي يمثّل قيمها حاليًا.
أنا لستُ ضد إعطاء الجنسية السعودية لروبوت أو أن يتحوّل إلى الإسلام، لكني مقتنعٌ أنّ كثيرًا من المسلمين لديهم مهام أكثر إلحاحًا يجب إنجازها؛ مثل الرؤية النقدية لواقعهم الحالي والتعبير عما يمرون به قبل الشروع في أيّ خطوة نحو المستقبل «السعوديون».
إنّ مصائرنا ليست في أيدي الأسرة الحاكمة أو الأيديولوجيات لأيّ دولة تحت أيّ حكم أو مسمى، لا سيما الدولتين المتحاربتين إيران والسعودية؛ فنحن الشعوب -العرب والمسلمون- من نحدّد مصائرهم، أو هذا ما يجب أن يكون.
فالدولة الحاكمة «السعودية» تفعل ما تريد، بتكتيكاتها الخبيثة؛ لكنّ لدينا مساحة كبرى كأشخاص عاديين يمكننا منها تفكيك الأعمال العدائية المصطنعة وإعادة رسم معالم مستقبل أطفالنا، ومتحف الفن الإسلامي في الدوحة مكان يجعلنا نبدأ في التفكير والنقاش بشأن ماضينا ومستقبلنا بعيدًا عما يحدث الآن.