بدأت في العاصمة التركية الأربعاء الماضي محاكمة منفذي الانقلاب العسكري عام 1980م كنعان إيفرين ورفيقه تحسين شاهين كايا، في قضية لا سابق لها في البلاد.
ورغم أن الرجلين المسنين لم يحضرا جلسات المحكمة، فإن المهم في تلك المحاكمة الفريدة هو رمزيتها التي كسرت هيمنة الجيش على الحياة السياسية في البلاد.
وعلى الرغم من أن الجيش التركي استولى على السلطة ثلاث مرات منذ 1960م، فإن انقلاب 12 سبتمبر / أيلول 1980م كان الأكثر دموية حيث اعتقل 650 ألف، أدين 300 ألف منهم وحوكم 517 بالإعدام، في حين توفي 170 جراء التعذيب، واضطر عشرات آلاف الأتراك إلى الهجرة.
سياق عام
وتكتسب محاكمة الانقلابيين أهمية كبرى، لا لكونها الأولى من نوعها فحسب، بل لكونها تمثل خطوة كبيرة في سبيل تطهير البلاد من مخلّفات الانقلابات العسكرية، كما أنها بمثابة تحذير قوي لأصحاب أي محاولات مماثلة، وبالطبع فإن أهميتها الأولى تتجلى في انتقال السلطة من أيدي العسكر إلى السياسيين بما يعزز من أجواء الديمقراطية في الحياة العامة.
ولا يمكن النظر إلى هذه المحاكمة إلا من خلال سياق عام شهدته تركيا في العقد الأخير؛ حيث تراجع دور الجيش التركي مقابل تمدد دور حزب العدالة والتنمية، كما تجلّى في محاكمة جنرالات متهمين بالتخطيط لانقلاب على الحكومة وفي معركتي الحجاب والتعديلات الدستورية، فضلا عن إقالة قيادات من الجيش وتعويضها بأخرى أقل تصادما مع (العدالة والتنمية).
مواقف الأحزاب
ربما كانت واحدة من المرات النادرة التي تقف فيها المعارضة والحكومة في صف واحد، إذ لم تلق محاكمة الانقلابيين عام 1980م حماسا لدى أحزاب المعارضة فحسب، بل قدمت المعارضة ادعاءاتها ضد الانقلابيين باعتبارها تضررت من إجراءاتهم، الأمر الذي لقي انتقادا من رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، مذكِّرا مواطنيه بأن المعارضة تقدمت بادعاءاتها ضد الانقلابيين رغم أنها دعت لرفض التعديلات الدستورية عام 2010م التي سمحت بهذه المحاكمة.
وجاء في ادعاء زعيم حزب الحركة القومي دولت باهتشلي أن حزبه كان الضحية الحقيقية للانقلاب، مشيرا إلى إغلاق مقرات الحزب ومحاكمة مسئوليه أمام محاكم عرفية.
وورد في دعوى حزب الشعب الجمهوري في حين ألقي القبض على رئيس الحزب حينها بولنت أجويد، فإن الحادث الأكثر إزعاجا كان استخدام المقر العام للحزب كمحكمة عرفية.
وقدَّم حزب السلام والديمقراطية الكردي ادعاء مماثلا. وتقدم ما يزيد على 500 شخص و20 من منظمات المجتمع المدني ومؤسسات الدولة بادعاءاتهم أيضا.
وكان لافتًا وقوف أمهات ضحايا الانقلاب رغم تقدمهن في السن للتقدم بشكواهن، في حشد لا تُخفى مقاصده العميقة.
وكانت مفاجأة أخرى شهدتها المرافعات، إذ تقدم محامي الدفاع عن إيفرين وكايا بطلب بأن يتم التحقيق في دور الولايات المتحدة في الانقلاب، في حين تقدم محام آخر بطلب اعتقال إيفرين لحمايته من الانتحار الذي سبق أن هدَّد به.
ورفضت المحكمة طلبا باعتقال المتهمين الراقدين في مستشفى عسكري لتقدمهما في العمر وضعف صحتهما، لكنها أكدت أنه في حال الضرورة سيتم إحضارهما بالقوة، وإيداعهما قفص الاتهام ولو على نقالة.
موقف الشارع
ورغم أن الشارع التركي في عمومه مبتهج بمشهد تقديم الانقلابيين للقضاء، فإن الأتراك يرون أن الأهم هو أن هذه المحكمة يجب أن تميط اللثام عن عدد من الحوادث التي يعتقد أنها مدبرة من قبل مجموعات عمل مكلفة بالتهيئة للانقلاب وإضفاء الشرعية عليه.
يؤكد رئيس جمعية المواجهة جعفر سولغون أن: "الجميع بات يعرف الآن أن الانقلابيين أرادوا تهيئة الظروف الموضوعية قبل عام 1980م للقيام بانقلابهم"، وهو أمر يوافقه عليه رئيس جمعية حقوق الإنسان أحمد فاروق أونسال.
وأشار سولغون إلى مذبحتين ضد العلويين؛ إحداهما في جوروم في صيف عام 1980م أسفرت عن مقتل 57، والأخرى في كهرمان مرش عام 1978م حين قتل 150 من العلويين في غضون أسبوع، فضلا عن أحداث عيد العمال الدامي عام 1977م؛ حيث قتل 34 من المتظاهرين اليساريين أثناء محاولتهم الفرار من ميدان تقسيم بوسط إسطنبول عندما أطلق قناص مجهول النار عليهم.
وتابع: "إذا كنا نريد تحقيق العدالة، علينا فتح ملفات القضايا السابقة للانقلاب التي مهَّدت له لاحقا".