في زاوية ملطخة بالدماء داخل زنزانة، بالعاصمة السورية دمشق، جلس «مازن درويش» وقال لنفسه، «غدا، سأكون حرا». في أعماقه، كان يعلم أن هذا ليس صحيحا، لكن التمسك ببصيص أمل أبقاه على قيد الحياة.
في زنزانته، لم يستحم مازن لشهور، وحُرم من الطعام، مع وصلات تعذيب مستمرة بالصدمات الكهربائية، وتعليقه على الجداران من ذراعيه.
وبعدما أصبح حرا، قال مازن لـ«الجزيرة»، «كان الحراس يعذبوننا من أجل التعذيب وليس من أجل الحصول على معلومات، أرادوا إهانتنا وتدميرنا».
قضى الناشط البارز في مجال حقوق الإنسان، ثلاث سنوات ونصف في سجون الأسد، وفي أغسطس 2015، أطلق سراحه، وأضاف درويش، «إن عناصر النظام تصرفوا بحصانة لسنوات، وأي حل سياسي للنزاع السوري دون مساءلة وفرض العدالة لن يحقق السلام المستدام».
وفي وقت سابق من هذا العام، قدم «درويش» وثمانية سجناء سابقين في سوريا، شكوى جنائية ضد ستة من كبار مسؤولي الاستخبارات العسكرية والمقربين من الرئيس «بشار الأسد» يتهمونهم فيها بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
ولمدة شهرين، كان المدعي العام الألماني يستمع لشهادة الشهود من الناجين، ومعظمهم يعيشون الآن كلاجئين في البلاد، ومازالت القضية جارية.
ويرى المركز الأوروبي للدستور وحقوق الإنسان الذي يتخذ من برلين مقرا له، والذي يدعم شكوى المجموعة السورية، أن الشكوى تشكل خطوة أولى نحو طريق العدالة. ويأمل محامى المركز «باتريك كروكر» في أن تؤدي القضية إلى إصدار مذكرات توقيف دولية.
ويضيف كروكر لـ«الجزيرة»: «استخدم التعذيب في سوريا لعقود، ولكن في مارس 2011 تم تطبيقه كرد سياسي على الاحتجاجات المناهضة للحكومة».
ويستطرد المحامي، «ساهمت منظمات حقوق الإنسان، في رفع الوعي تجاه التعذيب والهجمات الكيماوية والضربات الجوية التي تستهدف المستشفيات وحصار حلب، ولا يمكن لأحد أن يدعي أنه لا يعرف ما يجري داخل سوريا، ويجب علينا التصرف تجاهها الآن، والحدود القانونية يجب احترامها حتى في أوقات الحرب، فالحرب لا يمكن أن تكون ثقبا أسود- في إشارة إلى أنه لا يجب التهاون مع ما حدث ويحدث».
وفي شهاداتهم وصف المعتقلون السابقون، حالات الضرب الوحشي التي تعرضوا لها والحرمان من النوم وحرق جلودهم كيميائيا بمنظفات، إضافة إلى العنف الجنسي واحتجازهم في ظروف غير إنسانية بزنزانات مكتظة بالفيروساتن في ثلاث سجون في دمشق بين أكتوبر 2011 ويوليو 2015.
وبحسب شبكة «الجزيرة»، فإن هذه القضية فريدة من نوعها؛ لأنها أطلقت بموجب مبدأ الاختصاص القضائي العالمي (فوفق القانون الألماني لعام 2002 الخاص بالجرائم ضد القانون الدولي، فإن المدعي الفيدرالي الألماني مخول بتقديم دعاوى ضد مجرمي الحرب بغض النظر عن مكان تواجد المدعى عليه أو المدعي، وعن مكان حدوث الجريمة، وعن جنسية الأشخاص المتورطين).
وهو مبدأ خالص لم ينفذ إلا في عدد قليل من بلدان العالم؛ في حين لا تستطيع المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي التحقيق في الجرائم المرتكبة في سوريا أو مقاضاة مرتكبيها لأن حكومة البلاد لم تعترف أبدا باختصاص المحكمة، وفي حين أن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة يمكن أن يحيل القضية إلى المحكمة الجنائية الدولية، فإن روسيا، حليفة الأسد، قد منعت هذه الخطوة باستخدام حق النقض (الفيتو).
كان درويش، انتقد علنا حملة القمع التي شنها النظام السوري على الاحتجاجات المناهضة للحكومة في مارس 2011. وفي فبراير 2012، اقتحمت قوات الأمن مكتب دمشق، وهو المركز السوري للإعلام وحرية التعبير. وألقي القبض على درويش وزوجته وأفراد المركز الآخرين.
وفي السنوات اللاحقة، نقل «درويش» من مركز احتجاز إلى آخر، بما في ذلك فرع عسكري، ومعسكر أمن تابع لسلاح الجو، وفرع أمن الدولة. في غضون السنة الأولى، قال درويش إنه خسر وزنه وانتشرت عدوى الجلد عبر جسده. وقال «كنت أشبه بهيكل عظمي».
ولقي مئات الآلاف من المدنيين حتفهم في إطلاق النار بالحرب السورية، ووصل العدد في العام السبع وفقا للمرصد السوري لحقوق الإنسان إلى أكثر من 465 ألف شخص، وهي بحسب «الجزيرة»، من أشد الصراعات فتكا في القرن الحادي والعشرين، في حين نزح 12 مليون سوري من ديارهم.
وجمعت جماعات حقوق الإنسان أدلة على التعذيب المنهجي وعمليات القتل خارج نطاق القانون، بما في ذلك الشنق الجماعي في شبكة من مرافق الاحتجاز التي تسيطر عليها الحكومة، مثل سجن «صيدنايا العسكري» الشهير. ومنذ عام 2011، توفي أكثر من 17 ألف شخص في الحجز الحكومي، وفقا لمنظمة العفو الدولية.
لكن من المستحيل تحديد عدد الأشخاص الذين سجنوا بشكل عام.
وتضيف «سارة الكيالي»، وهي باحثة سورية في هيومن رايتس ووتش، لـ«الجزيرة»، هذه الحالة هي علامة على أن جدار الإفلات من العقاب حول سوريا يتصدع، وهي المرة الأولى التي يتم فيها التحقيق في ارتكاب عناصر رفيعة المستوى في نظام الأسد بتهمة ارتكاب جرائم حب.
وأشارت إلى أن التحقيق الجاري الآن فى ألمانيا، أظهر أن أوروبا والمجتمع الدولى يأخذون الجرائم المزعومة التي ارتكبت في سوريا على محمل الجد.
وقالت، «من الناحية الواقعية، لا يمكن أن ننكر أن الطريق نحو العدالة الكاملة طويل، ويجب القيام بالمزيد، لكنها بالتأكيد خطوة في الاتجاه الصحيح، ومضيفة، انتهاكات حقوق الإنسان وجرائم الحرب في سوريا ليست سرا، ولا يمكن للمجتمع الدولي أن يغض الطرف عنها.
في عام 2014، نشر مصور سابق في الشرطة العسكرية السورية، أكثر من 50 ألف صورة تحت اسم مستعار «قيصر»، لجثث مشوهة لآلاف الرجال والنساء والأطفال الذين ماتوا أثناء الاحتجاز، ونفى النظام السوري مرارا هذه الادعاءات.
«خالد رواس» أحد المنضمين للشكوى والبالغ من العمر 28 عاما، يقول إنه لا يسعى للانتقام، «الأمر يتعلق فقط بالعدالة».
احتجز «رواس»، وهو طالب هندسي، مرتين بسبب أنشطته السياسية في سوريا. ففي ديسمبر 2011، ألقي القبض عليه أثناء مظاهرة مناهضة للحكومة في دمشق وسجن لمدة 28 يوما، تعرض خلالها للضرب بأنبوب، وتعرض لصدمات كهربائية، وأجبر على مشاهدة السجناء الآخرين وهم يضربون أثناء تعليقهم.
وقال لـ«الجزيرة»، صرخاتهم جعلتني أرتعد، «لن أنسى أبدا هذا الصوت.. العديد من السوريين الذين أعرفهم لا يفهمون سبب انضمامي إلى القضية، لأنهم لا يعتقدون أن ذلك سيحدث فرقا، لقد عانى الكثير من السوريين لفترة طويلة جدا، في حين أن العالم لم يتدخل، ولا يزال الآلاف يتعرضون للتعذيب، وعلينا أن نعطي لهم الأمل مرة أخرى.. هذه القضية تتعلق بإنقاذ البشرية».