تفوح رائحة المحاصصة فى بعض الاختيارات الجديدة فى الساحة المصرية، بمعنى حجز حصص لمختلف الأطراف فى التشكيلات التى تمت لإثبات حضورها واسترضائها. وهو مسلك متأثر بالرياح القوية التى هبت خلال الأشهر الماضية وقدمت الهويات السياسية أو الدينية على ما عداها من الاعتبارات. الأمر الذى نلحظه فى عناوين مختلف الصحف حين نجد أنه ما من تشكيل يعلن إلا وتركز الصحف على عدد الممثلين للإخوان والسلفيين والقوى الليبرالية واليسارية وغير ذلك. بالتالى فلم يعد السؤال الذى بات يشغل الناس هو ما إذا كان الشخص كفؤا أم لا، ولكنه أصبح يركز على أى فصيل ينتمى. حتى أنه فى بعض الأحيان فإن أوساط المثقفين والسياسيين تعبر عن الارتياح لتشكيل معين ليس لأنه بات يضم أفضل الكفاءات، ولكن لأنه استبعد أناسا بذواتهم. وقد قيل لى إن شخصا استبعد من الترشيح لإحدى الهيئات لمجرد أن ثمة «زبيبة» فى جبهته تشى بأنه من المواظبين على الصلاة وتشكك فى انتمائه للتيار الدينى(!).
يسهم فى اللغط المثار حول التشكيلات التى أعلت أن مؤسسات العمل العام ظلت طوال السنوات الماضية حكرا على فئات محدودة، وتضم أشخاصا معينين، قليلا مالا يتغيرون، الأمر الذى كان يستصحب دائما استبعاد فئات بذاتها وأناس معينين. فى الوقت ذاته فإن صعود التيار الإسلامى فى مصر بعد الثورة أشاع قدرا من الحساسية إزاءهم فى بعض الأوساط. ومعروف أن إقصاء رموز ذلك التيار وممثليه ظل قاعدة مستقرة فى تلك المرحلة.
سيقول قائل إن الإشكال يمكن حله بسهولة إذا تم الاتفاق على معايير موضوعية للاختيار فى كل جهة والإعلان عنها، بحيث يحتكم الجميع إليها بصرف النظر عن هوياتهم، والمقصود بالموضوعية ما يتعلق بالكفاءة المطلوبة لأداء العمل والقدرة على تحمل أعبائه. وهذا كلام منطقى جدا وسليم فى الظروف العادية، أو قل إنه المعيار الأمثل للاختيار. لكن يبدو أن الأمر فى الواقع أكثر تعقيدا وحساسية، لأسباب متعددة. منها مثلا أن الصراع بين القوى السياسية المختلفة والاستقطاب الحاصل فى المجتمع المصرى بعد الثورة. جعل كل الأطراف شديدة الحرص على إثبات وجودها، بحيث يكون لها نصيبها من «الكعكة» خصوصا أولئك الذين استمر إقصاؤهم فى الماضى. بالتالى فالأولوية عندها ليست فى كفاءة أداء العمل ولكنها فى تمثيلها داخل دائرة المسئولين عن العمل. وإذا ما تم ذلك التمثيل فكل ما عدا ذلك يصبح تاليا فى ترتيب الأهمية.
فى نصوص القرآن «إن خير من استأجرت القوى الأمين»، وهو التوجيه الذى طرح شرطين موضوعيين لشغل المناصب هما الكفاءة والقدرة. وفى السيرة النبوية ان النبى عليه الصلاة والسلام حين هاجر من مكة إلى المدينة فإن دليله فى الطريق لم يكن مسلما، ولكنه كان بين مشركى قريش. ولم يأبه النبى باعتقاده، ولم يصرف النظر عنه لأنه مشرك، ولكنه اختاره لأنه توسم فيه الكفاءة والقدرة على انجاز المهمة.
هناك أكثر من مشكلة تواجه الاحتكام إلى معايير موضوعية فى اختيار الأشخاص لمواقع العمل العام منها ما يلى:
● غياب الثقافة والخبرة الديمقراطية التى تدرب الناس على العمل معا رغم اختلاف مشاربهم وهوياتهم. وهذا الغياب ولد أزمة الثقة فى الآخر الذى بات يصنف بحسبانه مزاحما وليس مكملا وشريكا.
● التأثر بقيم وتقاليد مرحلة الحزب الواحد واللون الواحد. التى تحصر القيادة والريادة فى «طليعة» بذاتها، تمثل الحزب القائد، ولا تمثل النخبة التى يختارها المجتمع معبرة عن اتجاهاته المختلفة.
● تجذر فكرة القبيلة فى أعماق المجتمع العربى، الذى لم يهضم بشكل جاد فكرة الدولة. وذلك أيضا من آثار غياب الثقافة الديمقراطية. حيث لايزال الولاء للجماعة أو الحزب أو الجهة أو الأسرة الكبيرة أو حتى دفعة التخرج والمهنة، من الأمور التى تسهم فى اختيار الأشخاص لمواقع القرار.
● إننا فى مصر الآن نؤسس لنظام جديد يفترض أن يكون أصدق فى تمثيل المجتمع الذى تم استدعاؤه بعد الثورة إلى ساحة السياسة بعد طول تغيب وتهميش. ولأن الاختيار كان يتم فى السابق من شريحة بذاتها تدور فى فلك القبيلة الحاكمة، فإن اكتشاف العناصر الجيدة الموجودة خارج نطاق القبيلة المذكورة يتطلب جهدا شاقا وقد يستغرق وقتا طويلا، لذلك فإن الاختيار فى الظرف الراهن يتم إما من خلال القبائل الأخرى القائمة، أو من خلال وسائل الإعلام (التليفزيون بالأخص) التى صار بمقدورها تحويل الأشخاص المغمورين إلى نجوم وشخصيات عامة خلال أسابيع معدودة. وهى الظاهرة التى لمسناها بقوة فى مصر بعد الثورة.
أيا كان تحليلنا لملابسات عجزنا عن إدراك المعايير التى على أساسها تتم الاختيارات، فإن ذلك لا يقلل من أهمية توافر الحد الأدنى من تلك المعايير. وللعلم فليس مطلبنا أن يقع الاختيار دائما على «الخبراء» فى كل موضوع، وان تمنينا ذلك، وأنما صار مطلبنا أكثر تواضعا بحيث تطلعنا لأن يكون الذين يتم اختيارهم على صلة بالموضوع.
أقول قولى هذا وأنا أكتم دهشتى من اختيار أناس لبعض المواقع ربما كانوا محترمين جدا كأشخاص، لكنى وجدتهم بعيدين تماما عن الموضوع. وإذ التمس العذر فى ذلك لبعض الوقت لكنه مما يصعب القبول به طول الوقت.