إعتدت أن اسمع من أجدادى حكايا عن زمن الملك فاروق و الإنجليز و قصص الكفاح و المظاهرات لمقاومه الإحتلال … و أسمع لذكريات أبى عن أيام عبد الناصر و كيف شعر الناس بالألم و الخزى أيام النكسه ثم استجمعوا شتاتهم و بدأت حرب الإستنزاف و محاولات مستمره لإستعاده الارض …و كيف تحمل الشعب النقص الحاد فى متطلبات الحياه اليوميه و إحتياجاتهم الأساسيه برحابه صدر لأن معظم موارد الدوله موجهه لتسليح الجيش .. و أنهم كانوا مستعدين لتحمل المزيد فى سبيل إستعاده سيناء …
كان كل من حولى و يكبروننى بجيل أو اثنين لديهم ذكرياتهم التى يفتخروا بها … و كنت أستمع اليهم و كلى إحساس بالقهر … فأنا من الجيل الذى فتح عينيه على الدنيا فوجد مبارك رئيسا و حزبه الوطنى هو الحزب الحاكم … و صاحبتنى صوره مبارك فى فصول المدرسه الإبتدائيه ثم الإعداديه و الثانويه … و لاحقتنى نفس الصوره فى مدرجات الجامعه .. ثم فى كل مؤسسه حكوميه بعد ذلك …و كان من المتوقع أن تاخذ صوره ابنه مكانه ليبقى نفس النظام بنفس رموزه الى الابد ….و رسخ لدي يقين ان المناصب السياديه لا يتركها أصاحبها إلا عندما توافيهم المنيه … فنفس الأسماء نسمعها كل يوم لعقود.. صفوت الشريف و المشير طنطاوى و فاروف حسنى و غيرهم…
لم يشهد جيلى أى أحداث سياسيه هامه أو نتخذ كدوله موقف نفتخر به … بل تشبعنا بمشاعر الخزى من أى موقف رسمى لمصر فى قضايا داخليه أو دوليه … و مع الوقت فقدنا حتى الإهتمام بمتابعه أى أخبار سياسيه … و فقدت كل مؤسساتنا التشريعيه قيمتها و مكانتها لدينا … فمجلس الشعب و جلساته أشبه بالمسرحيه الهزليه يؤديها بعض المهرجين من تابعى النظام … و الوزراء و المسؤولين ينقسموا الى قسمين … أولهم يتحدث عن دوله أخرى معدلات التنميه فيها عاليه جدا و نسب البطاله حققت إنخفاضا ملحوظا و المشاريع التنمويه تدر مليارات لا تجد من ينفقها … و الجزء الاخر يتحدث بإستعلاء و يعاير الشعب بفقره و لسان حالهم يقول ” و إحنا حنجيبب لكم منين … إحمدوا ربنا على اللى انتم فيه !”…بدلا من محاوله إيجاد حلول و سبل لإستخدام و تنميه الموارد المتاحه .
.
أنا من الجيل الذى إقتنع تماما ألا كرامه له فى بلده و أن الوسيله الوحيده للعيش الكريم هى السفر و ترك البلد لأجل غير مسمى … ربما سافر كثير منا فى البدايه بحثا عن الرزق … و لكن بعد هذا إكتشفنا أن العوده حتى إذا توفرت الموارد الماديه صعبه جدا … فقد ترسخ داخلنا إحساس عميق بأن ” البلد ليست بلدنا ” ليس لنا فيها شئ … و ليس لنا فيها قيمه أو كرامه … هى بلد رجال النظام .. رجال النظام من السياسيين و رجال الأعمال و الإعلاميين و غيرهم … أما من عاداهم فهم ممن لا قيمه لأحيائهم و لا ديه لأمواتهم.
أنا من هذا الجيل الذى كاد يفقد الأمل فى أى تغيير … حتى أنعم الله علينا بهذه الثوره … جاءت لتنتشلنا من اليأس الذى غرقنا فيه لعقود … و لتخرج منا أحسن ما فينا … جاءت لتحيي فينا روحا ظنناها ماتت منذ زمن بعيد … سمعنا كلمات و هتافات نسيناها … رأينا شبابا يواجه الدبابات و الرصاص بصدر عار … راينا أمهات تنزل الميدان حامله أبنائها الصغار و تقول ” إما يسقط النظام فيعيشوا بكرامه أو يموتوا هنا معى أكرم لهم ” …. رأينا صوره رائعه لمصر و للمصريين … نبذنا ما فى قلوبنا من خوف و غيرنا ما بأنفسنا فأتم الله نعمته علينا و نجحت الثوره و سقط النظام الذى ما تصورنا يوما سقوطه من شده تغوله و تغلغله فى كل مفاصل الدوله حتى النخاع. .
و شعرنا أن البلد بلدنا مره اخرى… و تابعنا بقلوب وجله المؤامرات التى تحاك لإعاده إنتاج النظام السابق فى صوره أخرى … و إبتهلنا الى الله كثيرا أن يتم نعمته علينا و يولى علينا من يصلح … و مرت الأيام بطيئه جدا و نحن فى إنتظار نتيجه الإنتخابات التى مثلت للكثيرين مثلى السهم الأخير .. إما بدايه جديده لعهد جديد يستحق ما بذل من دماء فى سبيل التغير … و إما رده الى عصر كرهناه و الموت أفضل لنا من أن نحياه مره أخرى
و أصبحت الان من الجيل الذى قام بثوره غيرت وجه مصر …. أصبح عندي شئ أفخر به و حكايا أقصها على أبنائى ….سأعلمهم أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم… سأحكى لهم عن أبطالنا الحقيقيون الذين تابعتهم بنفسي و لم أعرف لهم أسماء و لم يظهروا على الشاشات أو يكونوا أحزابا او ائتلافات ثوريه … سأحكى لهم عمن وقفوا أمام المدرعات و من ناموا تحت الدبابات ليمنعوها من إقتحام الميدان … سأروى لهم عن من إصطفوا ليصلوا تحت وابل من الرصاص الحى و الخراطيش و خراطيم المياه …. و بكائهم و هم يبتهلوا الى الله أن ينصرهم و يثبتهم … سأريهم صور شهدائنا و خير من فينا … من ضحوا بارواحهم ليعيدوا لنا وطننا … ليهدونا حاضر مشرف… و غد ننتظره بأمل و تفاؤل …و لاجيالنا القادمه تاريخ يفخروا به..