مع تنحي المخلوع مبارك في فبراير 2011 بدأ الحديث عن النموذج السياسي المصري المأمول، أىّ الشكل الأمثل للنظام السياسي المصري الجديد عقب إزاحة النظام البائد وبعض شخوصه وبعض أركانه ومقوماته، وكثر الحديث عن أن مصر في طريقها إلى النموذج التركي وهذا في الشكل الأكثر تفائلاً، والبعض الآخر تحدث عن أن مصر في طريقها إلى النموذج الباكستاني، ومع الصعود الإسلامي الكبير تحدّث البعض عن أن مصر في طريقها إلى النموذج الإيراني خاصة وأن مصر بها مرشد ورئيس، وكان السيناريو الأكثر قتامة هو أن مصر في طريقها إلى النموذج الأفغاني أو الصومالي حيث الدولة الفاشلة اللاآمنة والمُغيبة
ويمكننا القول بداية أن النماذج السياسية لا يمكن استيرادها أو حتى تصديرها أو محاكاتها، لأن النماذج تنشأ بالأساس في ظل بيئة وخصوصية كل مجتمع وهي معطيات بالتالي تختلف من مجتمع لآخر، بالإضافة إلى أن طبيعة الشعوب هي الأخرى تحدِّد مدى تقبُّل أيّ نموذج سياسي أو حتى شكل هذا النموذج السياسي
ولكن لا يمكننا إنكار أن مصر منذ تنحي مبارك وحتى الآن تصدّرت بعض المشاهد فيها واجهة الحياة السياسية مما حدا بالبعض لأن يشبه مصر بنماذج سياسية أخرى، وبالتالي كان هناك نوع من التعميم في غير محله ونظرة أحادية غير مُنصفة، حيث أن مشهد ما، يقبّل فيه المرشح الرئاسي لجماعة الإخوان المسلمين – الرئيس المصري الحالي محمد مرسي – يد مرشد الجماعة وهو مشهد يأخذنا إلى النموذج الإيراني حيث ثنائية المرشد والرئيس خاصة في ظل الصعود الإسلامي وما لذلك من تأثير على أسلمة أىّ نموذج سياسي قادم
مشهد آخر مثّل حالة من التوافق الكبير بين الإسلاميين والعسكر وجسّد قمة هذا التوافق استفتاء مارس 2011 بما كان يضمنه من انتخابات أولاً قبل الدستور، وهو ما يخدم القوى الإسلامية الأكثر جاهزية في الشارع بعكس قوى الثورة المنهكة حديثة العهد بالسياسة، وضَمن هذا التوافق بين العسكر والإسلاميين، تحييد الإسلاميين عن الثورة وقواها التي دُهست وعُرّت وقُتلت وفُقأت أعينها في ميدان التحرير وجواره الجغرافي القريب، وفوق هؤلاء الآلاف من الشباب المسجونين في السجون الحربية لمجرد أنهم عبّروا عن رأيهم أو نددوا بأخطاء العسكر، وبالتالي يمكن القول بأن هذه المرحلة من عمر الثورة شكّلت ما يمكن تسميته "سلام بارد" بين الإسلاميين والعسكر في الفترة من مارس 2011 وحتى مارس 2012، وهو مشهد يشبه النموذج الباكستاني إلى حد كبير
مشهد ثالث كان فيه الصراع شديد بين العسكر من ناحية والإسلاميين من ناحية أخرى عندما بدأ تراشق البيانات بين الطرفين في أواخر مارس 2012، وهو ما يمكن تسميته "حرب باردة" بينهما بسبب موقف الجماعة الصريح بسحب الثقة من حكومة الجنزوري التي عينها العسكري، وهو الأمر الذي دفع العسكري للتلويح للجماعة بحل البرلمان بل وهدّد ضمنياً الإخوان بخطورة العودة إلى الماضي وضرورة أن يعوا دروس التاريخ، وبالتالي كان هذا المشهد السياسي قريب إلى النموذج التركي بصيغته التقليدية القديمة
مشهد رابع كان فيه تغييب للأمن وحالة من الفوضى المتعمدة، حيث الدولة غير قائمة بدورها في الدفاع عن مواطنيها، في ظل صعود إسلامي وفوضى من الفزاعات، وشكّل هذا المشهد حالة قريبة من النموذج الأفغاني أو حتى الصومالي حيث الدولة الفاشلة في القيام بواجباتها
وبالتالي مرّت مصر بمشاهد مختلفة من النماذج السياسية لدول أخريات، هذه المشاهد لا يمكن تعميمها، ولايمكن أن نقول بشكل كامل عن (أسلمة- أتركة- أفغنة- صوملة- بسكتنة) مصر، لأن مصر قادرة ولو بعد حين على خلق نموذجها السياسي الذي يتسق مع خصوصيتها وتفردها وهُويتها
مصر قادرة على خلق نموذجها السياسي عن طريق إيجاد دولة القانون والمواطنة، والحرية المسئولة، وبناء مؤسسات قوية، عمادها القضاء المستقل والإعلام الهادف، وأن يكون بناء الإنسان المصري جنباً إلى جنب مع بناء دولة المؤسسات، لأنه لا قيمة لدولة مؤسساتها قوية وإنسانها ضعيف، وبالتالي نحن نريد أنسنة النموذج السياسي المصري المأمول، ونريد تمصيره بأن يكون مصرياً خالصاً يستورد من النماذج الأخرى ما يتفق مع خصوصية الحالة المصرية ويستبعد ما يتناقض ويختلف ولا يستوعبه المجتمع، ومجتمع يستوعب الجميع مهما تكن توجهاتهم، مجتمع يحترم الآخر مهما زاد حد الاختلاف، اختلاف دون خلاف، وصراع دون صدام، وحراك دون تحريك.
ولن نستطع خلق نموذج سياسي ناجح بدون سياسة خارجية قوية تستطيع أن تعود بمصر المكان والمكانة والإمكانية، لأن الداخل يصنع الخارج، والخارج يؤثر على الداخل، ومصر عليها الآن، والآن تعني الآن، أن تعود إلى محيطها العربي بسياسة متوازنة تعالج التخوفات من خلال نظر لافوقية متعجرفة، وتعود مصر إلى محيطها الأفريقي بعد تهميش عقود مبارك، لأن أفريقيا هي قلب مصر النابض ووجهتها الاقتصادية وعماد أمن مصر القومي، وتعود مصر إلى محيطها الإسلامي بوسطيتها ونموذجها السمح، وتعود مصر إلى العالم عن طريق سياسة خارجية تجعل مصلحة الوطن فوق مصلحة الآخرين
مصر بثورتها الرائعة، ومخزونها الحضاري الضخم، ومواردها البشرية والاقتصادية الكبيرة تستطيع خلق نموذجها السياسي المأمول، ولكن نريد إرادة قوية وإدارة ناجحة، وأن نعي جميعاً حقيقة أن ما يحدث الآن من صراع بينقوى المستقبل وقوى الماضي هو أمر طبيعي للغاية، المهم أن ندرك ذلك ونتعلم ونحاول، لأن بناء المستقبل لن يتأتي إلا بشرف المحاولة !