يقول الزعيم النازي الألماني أدولف هتلر في إحدى وصفاته السياسية الشيطانية التي اخترعها بالتعاون مع وزير إعلامه الشهير جوزيف غوبلز صاحب لعبة الإعلام القائم على الكذب ثم الكذب حتى تصدق نفسك، أو حتى يعلق شيء في أذهان الجماهير، يقول إن أفضل طريقة للنيل من خصومك السياسيين والمعارضين لنظام حكمك أن تصورهم على أنهم مجرد ثلة من المخربين والمندسين والعملاء والخونة الذين يهددون حياة الشعب والوطن، وبالتالي لا بد من استئصالهم لحماية الوطن والشعب من شرورهم وأخطارهم. ويضيف في مقولته الشهيرة: "إذا أردت السيطرة على الناس أخبرهم أنهم معرضون للخطر، وحذرهم من أن أمنهم تحت التهديد ثم شكك في وطنية معارضيك".
ورغم مرور حوالي قرن من الزمان على تلك التوليفة الهتلرية القميئة، إلا أنها ما زالت حية ترزق لدى الأنظمة الفاشية والطواغيت الأحياء من أمثال الفوهرر. وقد شاهدنا كيف قام البعض بتطبيق خطة هتلر بحذافيرها لمواجهة الثورات العربية والثوار الذين يقودونها. فلو نظرنا إلى التصريحات التي أطلقها الطغاة العرب فور اندلاع الثورات ضد أنظمة حكمهم لوجدنا أنهم يرددون تعابير هتلر، لكن بلغة جديدة تناسب العصر السياسي الحديث، وفي بعض الأحيان رددت وسائل إعلامهم العبارات النازية ذاتها. فهذا وصف معارضيه بالكلاب الضالة والمهلوسين والجرذان والصراصير، وذاك بالجراثيم والإرهابيين والمخربين والمندسين والإرهابيين والقاعديين والإسلاميين المتطرفين والمتآمرين وأعداء الوطن. بعبارة أخرى: إن أول تهمة وجهها الطغاة لخصومهم هي تهمة اللاوطنية عملاً بمقولة معلمهم الذي علمهم السحر هتلر. وقد كانت أسهل وأسرع طريقة لإحباط الثورات الشعبية اتهام المحتجين بأنهم مخربون وإرهابيون وعملاء وخونة لدول أجنبية. ولم يتردد البعض باتهامهم بتقاضي أموال من الخارج مقابل مظاهراتهم واحتجاجاتهم. وقد سمعنا أحد الطواغيت وهو ينكر وجود ثورة في بلاده متهماً المحتجين بأنهم يتقاضون بضعة نقود من الخارج للخروج في مظاهرة احتجاجية. والهدف من هذه الاتهامات للخصوم ليس فقط لشيطنتهم، بل لجعل بقية الشعب يفكر ألف مرة قبل الانقلاب على الطاغية أو الخروج ضده.
أما التهمة الأخرى للثوار فكانت اتهامهم بحمل السلاح ضد الدولة والوطن حتى لو لم يكن بأيديهم مجرد سكاكين بلاستيكية. فالمتظاهرون المسلحون أفضل بالنسبة للطغاة من المتظاهرين السلميين كثيراً، فقد تجد قوات الديكتاتور صعوبة أحياناً في تبرير إطلاقها النار على المحتجين العزل، بينما تستمتع بإطلاق النار وحتى سحق المسلحين بحجة أنهم يهددون أمن الدولة والشعب. وهذه لعبتها المفضلة، فلا أحد يضاهيها في استخدام العنف.
وقد شاهدنا كيف راحت وسائل إعلام الطواغيت أثناء الثورات تتهم المتظاهرين بأنهم إرهابيون يدمرون الممتلكات الخاصة والعامة وقتل المواطنين أو الاعتداء عليهم. وعندما وجد سليلو الإعلام النازي أن كذبهم الغوبلزي بدأ يصدقه بعض الناس قاموا فوراً بإنزال الجيوش إلى الشوارع بحجة مواجهة المجرمين والمخربين. لا بل عملوا المستحيل على تهريب وإيصال السلاح للمتظاهرين لتبرير عملياتهم العسكرية ضدهم. وقد كشفت بعض التسريبات أن عملاء السلطات كانوا يقومون بتسهيل عمليات إيصال السلاح وتهريبه للمتظاهرين. وقد شاهدنا في بعض البلدان كيف كانت السلطات ترمي الأسلحة في حدائق المناطق الثائرة لتوهم الشعوب بأنها تواجه مسلحين ومجرمين. كما شاهدنا كيف كان البعض يقتل المتظاهرين، ثم يضع بجانب جثثهم بنادق لتبرير مواجهتهم وقتلهم.
وفي بداية إحدى الثورات اجتمع كبار القوم للتخطيط لمواجهة المظاهرات، فقال أحدهم: "كيف نواجه شعباً أعزل لا يحمل شيئاً في أيديه"، فرد آخر: "هو فعلاً أعزل، لكننا سنروج في وسائل إعلامنا أنه مدجج بالسلاح، وسنواجهه بناء على هذه الكذبة بعد أن نكون قد روجنا لها بما فيه الكفاية". وعندما يصل السلاح إلى أيدي المتظاهرين يكون الطغاة قد قطعوا نصف الطريق في التصدي للثورات، فتبدأ المعارك بين الجيوش في الشوارع والمتظاهرين الذين اضطرتهم قوات النظام ووحشيتها لحمل السلاح الخفيف للدفاع عن أنفسهم وأعراضهم. وهنا يبدأ إعلام الديكتاتوريات يتكلم بثقة أمام الشعوب ويقول: "انظروا كيف يخرب هؤلاء الإرهابيون البلاد ويقتلون العباد"، مع العلم أن الكثير من الاعتداءات على الناس تكون من فعل السلطات نفسها. وقد شاهدنا على الشاشات كيف كان بعض عملاء السلطة يطلقون النار على المتظاهرين، ثم نسمع بعد قليل في وسائل الإعلام الرسمية أن عصابات خارجة عن القانون تقوم بإرهاب وقتل المواطنين. ومن أكثر الأكاذيب التي سمعناها أن بعض العصابات هي من يطلق النار على المتظاهرين السلميين، مع العلم أن تلك العصابات تختفي تماماً عندما تخرج إلى الشوارع مظاهرات مؤيدة للطواغيت. ومن سذاجة البعض أنه يصدق أكاذيب السلطات، وربما اصطف معها لمحاربة إخوانه الثائرين. ولا ننسى أن السلطات التي تواجه ثورات تنشر في وسائل إعلامها أكاذيب مفادها أنها تلاحق العصابات نزولاً عند رغبة الناس الذين يتوسلون إليها لإعادة الأمن والاستقرار إلى مناطقهم، مع العلم أنه لا أحد طلب من السلطات ذلك.
ويستمر القتال بين الجيوش والثوار، لكن ليس كمواجهة بين شعب ثائر وسلطات غاشمة، بل على أنه صراع بين الدولة الوطنية التي تحاول حماية الشعب والوطن ومجموعات تخريبية ترعب المواطنين. وبذلك يكون الطغاة قد نجحوا جزئياً في حرف الثورات عن مسارها وتصوير أنفسهم على أنهم ضحية لتهديدات إرهابية ومؤامرات خارجية، بعد أن كانوا هدف الثورات التي تحاول التخلص من بطشهم وطغيانهم. وبدل أن يتحدث الناس من الآن فصاعداً عن ثورات مشروعة يبدأون بالحديث عن الصراع بين الدولة وأعدائها من المخربين والمجرمين. ولا يمكن لأي شخص في هذه الأوقات أن يصبح وطنياً إلا إذا شارك في حفلات الكذب الممنهج وترديد أكاذيب الإعلام الرسمي الفاشي الديكتاتوري، وإلا إذا قال إن الأسود أبيض، والأبيض أسود. أما إذا قال إن الأسود أسود فهو خائن وملعون مطعون.
وعندما يجد الديكتاتور أن الوضع بدأ يخرج عن السيطرة في مواجهة الثائرين الذين بدأوا يتسلحون أكثر بمساعدة قوى داخلية وخارجية لم تعد تتحمل جرائم الطواغيت للدفاع عن أهلهم وذويهم في وجه آلة القتل الرسمية المهولة، يلجأ الطغاة عندها إلى كل أنواع الأسلحة الفتاكة البرية والجوية والبحرية وربما المحرمة دولياً بحجة أنهم يواجهون عدواً داخلياً. لكن على نجاعتها، لم تعد الوصفة الهتلرية تنطلي إلا على السذج والمغفلين، خاصة أننا نعيش في عصر السموات المفتوحة، حيث هناك الكثير من الوسائل الإعلامية المتعددة لتعرية تلك الخزعبلات الطاغوتية. لا عجب إذن أن الطواغيت المحاصرين بالثورات يعتبرون وسائل الإعلام الحرة ألد أعدائهم، لأنها تفضح كذبهم الممنهج الذي ربما كان ناجعاً أيام النازية، لكنه أصبح الآن مثاراً للسخرية والتهكم.