يبدو أن مصر بدأت تخسر تدريجيًا قبضتها على مياه نهر النيل بعد أن كانت عمودها الفقري منذ آلاف السنين.
وفي أواخر الشهر الماضي، استضافت أوغندا أولى قمة لحل الخلاف على مياه نهر النيل؛ لكنها لم تحقق أي انفراج كبيرًا في الخلافات. ستختبر إثيوبيا مخاوف مصر في الأشهر المقبلة عن طريق إنشاء سد كبير، وهو ما سيوضح أيضًا كمّ النفوذ الذي خسرته مصر.
تملك مصر مطالب تاريخية ومشروعة في نهر النيل تعود إلى العصور القديمة، لكن هذا الإطار يقوّضه التطور السريع والنمو السكاني. حاليًا، يعيش أكثر من 430 مليون شخص عبر 11 دولة تشكّل حوض النيل، وهي مصر والسودان وجنوب السودان وإثيوبيا وكينيا وأوغندا وروندا وبورندي وتنزانيا والكونغو وإرتيريا؛ ومن المتوقع أن يصل عدد السكان إلى المليار بحلول عام 2050.
وقال أستاذ العلوم الجيولوجية بجامعة ولاية أوريغون «أرون وولف» إن دول المنبع لا يمكنها الانتظار للحصول على موافقة مصر للأبد، وأضاف أن النهر قُيّم بدرجة أقل من ناحية إمدادات المياه وبشكل أكبر بشأن إنتاجية الكهرباء.
إدارة المياه
بموجب اتفاقية 1959، انقسمت حقوق مياه النيل بين مصر (التي يحق لها 55.5 مليارًا مكعبًا) والسودان (الذي يحق له ما يقرب من 18.5 مليارًا مكعبًا). اعتمدت الدولتان بشكل كبير على المياه أكثر من باقي دول حوض النيل؛ حيث اعتمدت مياه مصر على نهر النيل بنسبة وصلت إلى 97%. لكن، في السنوات الماضية، تعاملت دول المنبع مع هذا الأمر بشروط اتفاقية مرّت عليها عقود، ولم يكونوا دولًا فعالة.
وفي 1999 قررت تسع دول تشكيل «مبادرة دول حوض النيل» لمحاولة إدارة المياه، وكان «جنوب السودان» الدولة العاشرة في هذه المبادرة بعد حصولها على استقلالها في 2011، بينما تشارك إرتيريا مراقبة.
بدأت المبادرة في العمل على شكل جديد لإدارة المياه، لكن رفضت مصر والسودان الانضمام إلى اتفاقية «عنتيبي» التي توصلت إليها الدول في 2010، وجمّدت مصر مشاركتها في المبادرة واستمرت خارجها؛ مُصرّة على ألا تعود حتى تضمن إخطارها قبل الاتفاق على أي مشاريع جديدة تخص مياه النيل وحتى تُتّخذ القرارات بإجماع الآراء.
وعارضت مصر مبدئيًا مشروع سد النهضة، الذي سيُفتتح على نهر النيل بإثيوبيا في غضون ثلاثة أشهر أو أربعة، ويراه الشعب الإثيوبي مصدرًا للفخر الوطني ويأملون أن يساهم في تعزيز اقتصادهم. عند الانتهاء من البناء، سيكون طول السد قرابة 570 قدمًا وسيزيد من قدرة الدولة على إنتاج الطاقة بنسبة أكثر من الضعف.
مبالغات مصرية
لعقود من الزمن اعتبرت مصر أن أيّ تدخل في أزمة مياه النيل سيُتعامل معه كتهديد وجودي. قبل إنشاء السد في 2011، قالت التقارير إن مصر تدرس ردًا عسكريًا لمنع سد إثيوبيا من التدخل في تدفق المياه. وقبلها بعقود، أعلن الرئيس المصري الراحل أنور السادات أن المياه تعتبر الأزمة الوحيدة التي يمكن أن تُدخِل مصر في حرب أخرى.
وقّعت مصر وإثيوبيا والسودان على اتفاقية لحل النزاع في 2015، منذ ذلك الوقت دعمت مصر بشكل متذمر السد الجديد؛ ما يعني أنها تعترف بالحاجة إلى دعم مطالب دول حوض النيل. بمجرد بناء السد لا يتوقع أحد أن تتخذ مصر خطوات قوية واستكمال تهديدات السادات، ولا تستطيع مصر التراجع الكامل عن هذا الموقف الآن؛ ولكنها لا زالت تملك أوراقًا يمكن استخدامها.
ويقول كيفن ويلر، من معهد التغير البيئي في أكسفورد، إن التوقّعات الكارثية الخاصة بتأثير السد على المياه في مصر مبالغ فيها؛ وتتراوح ما بين توقّع البعض بألا تتحرك مصر، وتوقع آخرين بتدمّر الدولة المصرية بسبب هذا السد. لكنّ هناك توقعات منطقية؛ فالسد يمكن أن يساعد في تنظيم المياه المتدفقة إلى مصر ويوصل إليها المياه أثناء أوقات الجفاف.
ويضيف «كيفن» أن الاختبار الأكبر سيظهر في السنوات الأولى بعد ملء إثيوبيا خزانًا واسعًا من مياه نهر النيل. إذا اتفقت الدولتان فستتمكنان من تخفيف أي آثار للجفاف أو نقص في المياه. بعد ذلك، من المتوقع أن تتدفق المياه في اتجاه المصب بوتيرة واحدة.
السيسي والسلطة
على الرغم من أن مسألة السد الإثيوبي لم تُدرَج ضمن جدول أعمال قمة النيل الأخيرة؛ فإن رئيس الوزراء الإثيوبي والرئيس المصري بدا عليهما الانزعاج في اللقاء الذي لم يُتوصّل فيه إلى نتائج فعالة.
استطاع السيسي التفاعل بشكل جيد مع جيرانه الإفريقيين في صحراء الجنوب، لكن أزمة مياه النيل لا زالت تشكّل عقبة؛ إلا أن حضوره في كمبالا يوضّح اعترافه بموقف مصر المتغير ومحاولته الحفاظ على السلطة.
مع تزايد عدد سكان مصر بقرابة 30 مليونًا بحلول 2030، فإن مطالبها للمياه ستتزايد. في الوقت نفسه، سيزيد التغيّر المناخي من تقلّب تدفق المياه بنسبة 50%، وفقًا لدراسة جديدة من معهد ماساتشوستس؛ ومن المتوقع أن يرتفع حجم المياه بنسبة 10 إلى 15% كما توقع الباحثون، لكن ستكون هناك سنوات من الجفاف، وسنوات من الفوائض؛ كل ذلك يمكن أن يكون سببًا في الاعتماد على السدود لتنظيم تدفق المياه والسيطرة عليه.
توقع المستشار السابق لقانون المياه في البنك الدولي «سلمان إم سلمان» أن تُجبَر مصر بمرور الوقت على التوقيع على اتفاقية جديدة أو معدّلة لإدارة مياه النيل، موضحًا أن مصر ستتلفت يمينًا ويسارًا لتُفاجأ باكتمال بناء السد، بجانب محاولة إثيوبيا بناء سدود جديدة؛ وسيكون الخيار الوحيد أمامها «التعاون»، مشددًا أن الوقت ليس في صالح مصر.