تمر الأمة الإسلامية بعاصفة لم تحدث لها من قبل، تفتيت وتفرق وتشرذم، ومحاولات مستميتة للتقسيم، وخصوصًا في المنطقة العربية، وللأسف من بني جلدتنا من يساهم ويشارك في هذا الجُرم الكبير من التآمر والخذلان، الذي يُدمِّر ما تبقى منها، وتأتي عاصفة الخليج بعد الزيارة المشؤمة التي قام بها ترامب أخيرًا إلى الرياض، وللأسف استطاع أن يحقق ما يريده على حساب مقدرات الدول العربية، وتحقيقًا لمخطط تمكين الدولة العبرية في المنطقة العربية.
هذه الأزمة الخطيرة؛ لم تحدث من قبل منذ تأسيس مجلس التعاون الخليجي في العام 1981، فالخلافات لم تكن بهذه الصورة الفجة من المقاطعة، والأدهى والأمرّ استخدام علماء الدين لتبرير ما يذهب إليه أهل السلطة والسلطان، وللأسف الغاطس في هذه الأزمة أعمق مما هو ظاهر للعيان.
وأصل الحكاية؛ أن السياسة القَطَرية تصطدم مع السياسة الإماراتية منذ اندلاع الثورات العربية في 2011، سواء لتباين موقف الدولتين من الاتجاه الإسلامي في المنطقة العربية، أو لوقوف كل منهما في معسكر مقابل فيما يتعلق بقضايا محددة. ويمكن القول: إن الخلافات القَطَرية-الإماراتية تجلَّت في أكثر حالاتها حدَّة في الموقف من الانقلاب العسكري في مصر على الرئيس المنتخب، محمد مرسي، والموقف من محاولة خليفة حفتر، الذي يرفض الاعتراف بحكومة التوافق المعترف بها دوليًّا، ويسعى للسيطرة العسكرية على ليبيا، والموقف من التحركات التي تستهدف تقسيم اليمن من جديد.
أما الخلافات القَطَرية-السعودية فهي شأن آخر، حيث اختلفت السعودية وقطر في الموقف من الثورات العربية عمومًا، ولكن هذا الخلاف لم يكتسب طابعًا حادًّا؛ لأن السعودية لم تتبنَّ أصلًا سياسة مناهضة، بصورة مباشرة، للحراك الشعبي العربي في 2011. ففي سوريا، على وجه الخصوص، نشأ توافق سعودي-قطري على دعم الثورة السورية ومواجهة النفوذ الإيراني. ولكن العلاقات السعودية-القطرية تعرّضت لأزمة حادة في 2014 بفعل الاختلاف في الموقف من انقلاب صيف 2013 العسكري في مصر. وبينما لا تُبدي السعودية اهتمامًا يُذكر بالوضع الليبي، بدا منذ اندلاع الحرب ضد الحوثيين، قبل ما يزيد على عامين، أن التوافق بين الدوحة والرياض من الوضع اليمني، أكبر من التوافق بين الرياض و(أبو ظبي)، على الأقل ظاهرًا.
والتفسير المنطقي الوحيد لهذا الموقف أن السعودية، بتشجيع ملموس من الإمارات، تسعى إلى السيطرة الكاملة على القرار القَطَري، وإخضاع قطر كُليَّة، وتقديم قطر كإنذار لدول الخليج الأخرى، التي تحتفظ بسياسة مستقلة عن السعودية، مثل الكويت وعُمان.
والمؤكد أن قطر تستطيع الصمود أمام هذه الإجراءات؛ لأنها تمتلك احتياطيات كبيرة، وخيارات واسعة للاستيراد، ومنافذ بحرية وجوية عديدة، وشركاء اقتصاديين كبارًا يرتبطون معها باستثمارات كبيرة وبعقود حيوية مثل استيراد الغاز، كما أن الحكومة القطرية اتخذت إجراءات لمواجهة وضع حصار شبيه بالوضع الحالي منذ أزمة 2014.
إذن المعركة تدور حول دور قطر الإقليمي وسياساتها الخارجية، وهي محاولة مكشوفة من الإمارات والسعودية لفرض سياسة خارجية معينة تلتزم قطر بها خاصة فيما يتصل بالعلاقة مع مصر، والتي تتمتع كلٌ من الإمارات والسعودية بعلاقة متينة معها ومع نظامها الذي يمثل بالنسبة اليها سدًا منيعًا في وجه التغيير الذي يمكن أن تدفع به مجددًا قوى الشباب العربي، كما يبدو أن هذه الحملة تحظى بدعمٍ كبيرٍ من اللوبي الإسرائيلي في واشنطن، والذي كشفت التسريبات الأخيرة للبريد الإلكتروني للسفير الإماراتي في واشتطن عن حجم التنسيق بينه وبين أنصار إسرائيل في واشنطن لتشويه صورة قطر وتقديمها كدولة راعية للإرهاب.
أقول: من المستحيل أن تقبل قطر بفرض الوصاية عليها بالتراجع عن سياستها المستقلة في ظروفٍ من التهديد وفرض العقوبات وشنّ الحملات الإعلامية عليها بناء على فبركات. ويتطلب أيّ خروجٍ من الأزمة حوارًا بين أنداد، يجري فيه التفاهم على جميع القضايا، وليس بلغة التهديد وتقديم التنازلات.
والأسئلة المهمة في هذه الأزمة، التي ستقتلع الجميع لصالح أجندة خارجية ليست في مصلحة المنطقة:
ألا يوجد رجل رشيد لانقاذ الموقف؟
ألا يعلم هؤلاء أن هذه الأزمة ستعصف بالجميع لصالح أعداء الأمة؟
ألم يسأل هؤلاء أنفسهم أن المنطقة العربية في أضعف حالاتها، وأن العدو يتربص بنا جميعًا، وأنه هو المستفيد الوحيد من هذه الأزمات المصطنعة، وأن هذه الخلافات تؤدي إلى تأجيج الفتن، وإهدار مقدرات الدول؟
ماذا تريدون إذن؟
هل كرهكم للإسلام السياسي، وحركة المقاومة الإسلامية حماس، يجعلكم تُدمِّرون دولكم؟!
وهل الإخوان المسلمون، كما تقولون، هم سب البلاء في منطقتنا، أم أن سياسات الاستبداد والفساد التي تحكم دول المنطقة هي أصل الداء؟!
هل حماس التي هي حائط الصد الأخير في مواجهة الصهاينة المجرمين، هي مشكلة المشاكل، أم أننا سرنا حسب ما هو مخطط لنا، وأصبح إرضاء الأمريكان والصهاينة ومن يسير في فلكهم هو المخرج لكم؟
هل إرضاء الأمريكان من أجل الوصول للعروش أهم من إرضاء الشعوب، وتحقيق آمالها في الكرامة والحرية والعيش الكريم، أم أن شعوب المنطقة العربية غير مؤهلة لذلك، وليفعل الحكام ما يشاؤون؟!
هل العداء والحصار لدولة شقيقة وذوي القربى، أولى عندكم من معاداة أصل الداء الذي ينخر في الأمة العربية والإسلامية من الصهاينة والأمريكان، وتستخدمون في ذلك كل الوسائل بما فيها وسائل غير شريفة؟!
لماذا لا تعادون إيران، العدو الحقيقي كما تقولون، وتفرضوا عليها الحصار وتقطعوا العلاقات الدبلوماسية والتجارية معها؟
ولماذا تُطبِّعون مع الصهاينة، ولا تخجلون من غضبة ومشاعر الشعوب العربية والإسلامية؟!
هل الحل في نظركم هو دعم المستبدين في المنطقة، وإهدار مقدرات الأمة وخيراتها، لتحقيق مآرب ومصالح شخصية للبعض، والسطو على حقوق الشعوب وبيع الأرض وانتهاك العرض، وقتل أبنائها وحبس رموزها؟!
وهل ستهدأ الأوضاع بعد تنصيب محمد بن سلمان وليًا للعهد في السعودية، أم أننا سنشهد تحولات دراماتيكية في المنطقة، وتحالفات جديدة؟!
ياسادة لو أن هذه الأموال التي تنفقونها وتهدرونها في التآمر على الشعوب وإهلاك مقدراته، أُنفقت في وجهها الصحيح؛ لما وصل العالم العربي والإسلامي إلى هذه الحالة المُزرية من العَوز والتخلف والرجعية. عودوا إلى رشدكم، وكفاكم تدميرًا للبلاد والعباد، فالأمر جلل خطير، وإن لم تفيقوا من غفلتكم، ستكون الطامة الكبرى، وستقتلعكم قبل أن تقتلع غيركم، فالعدو يستخدمكم لتحقيق أغراضه، حتى إذا لبس وتمكّن سيغدر بكم جميعًا، وبشعوبكم، فكونوا على قدر المسؤولية، واعلموا أن الله سائلكم عمّا قدمتم لشعوبكم، فهل تتحملون الأمانة والمسؤولية على وجهها الصحيح أم لا؟
أتمنى أن تعودا إلى رشدكم ووحدتكم، ولتكن مصلحة الأمة وقضاياها مقدمة على المصالح والخلافات الشخصية، من خلال الحوار البنّاء والرؤية الصائبة، والتعاون المُثمر.
ولتعلموا أن القوة في الوحدة، والضعف في التفرق والتشرذم، والمستفيد الأول من خلافاتنا وتشرذمنا هو عدو هذه الأمة الذي يتربص بنا وبكم الدوائر، ولا يريد إلا إهلاكنا جميعًا.
والشعوب الحية عليها معول كبير في هذه المرحلة، أو بمعنى آخر أصحاب الوعي منهم، فالوعي يحيي أمة، وغيابه يزيل أمم.