.
يصعب فهم التشاحن الحاصل بين دول الخليج مع قطر. تقذفنا وسائل الإعلام بسلاسل متتابعة من العبارات المبتذلة حول طبيعة الأزمة وتطوراتها وتداعياتها المحتملة.
ثم هناك بالطبع تلك التحليلات الجيوسياسية للأزمة بعبارات لا تتجاوز 140 حرفاً، والتي يرى كثيرين أن عواقبها ستكون في غاية الخطورة.
ولكن على الرغم من التعقيدات التي تحيط به، يشكل هذا التشاحن ذروة العدمية السياسية والكلام الفارغ.
دولة في الخليج لديها علاقات تجارية ضخمة مع إيران تعمد بشكل أو بآخر إلى لوم دولة خليجية أخرى لأن لديها علاقات مع إيران. لم يعد بإمكان المواطن القطري زيارة دولة الإمارات العربية المتحدة لأن لدى بلاده علاقات رسمية مع إيران. أما المواطن الإيراني فبإمكانه زيارة البلدان الخليجية الأخرى.
ودولة خليجية أخرى هي منبع التيارات السلفية التي ساعدت في إيجاد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) تعمد بشكل أو بآخر إلى اتهام قطر بدعم الجماعات الطائفية التي يعادي بعضها بعضاً.
باختصار، بجرة قلم تم اختزال أزمة الشرق الأوسط بأسرها إلى مشكلة إرهاب ووجهت إلى قطر التهمة بأنها المسؤولة عنها كلها.
فضيحة ومأساة وكوميديا مأساوية
لو كان هذا كل ما في الأمر لانتهت المسألة عند هذا الحد. ولكن بمجرد أن تظن بأنك بدأت تفهم ما الذي يجري، يخرج علينا الرئيس الأمريكي مغرداً بشيء مثل: “من الجيد أن نرى أن زيارة المملكة العربية السعودية واللقاء مع الملك وزعماء خمسين دولة أخرى بدأت تؤتي أكلها”.
ثم تسارع الوزارات والمسؤولون الأمريكان من وزارة الدفاع إلى وزارة الخارجية مباشرة لإعلان أن الولايات المتحدة لا علاقة لها “بالدفعات المالية التي جناها الرئيس أثناء زيارته”.
وفيما يشبه إضافة الملح إلى الجرح، أرسلوا فريقاً من مكتب التحقيقات الفيدرالية (الإف بي آي) إلى قطر– التي لم يزعجهم دعمها لكافة أشاكل الإرهاب إلا في يونيو / حزيران 2017 فقرروا أن يعملوا شيئاً بصدده – وذلك للتحقيق في فضيحة الاختراق التي قام بها الهاكرز. ثم يتصل الرئيس ترامب هاتفياً بأمير قطر، الذي كان قد لامه لأنه يمول الإرهاب، ليعرض عليه القيام بوساطة بين قطر ودول الخليج الأخرى.
لا يعرف أحد ما هي خريطة الطريق التي يمكن أن تنجم عن هذه الأوضاع المرتبكة. كما لا يعرف أحد ما إذا كانت النتيجة ستختلف فيما لو فهمت قطر من البداية ما الذي كان متوقعاً منها وقامت باتخاذ الخطوات “الضرورية”.
هذه هي الحقيقة: نحن أمام أزمة مصطنعة نجمت عن فضيحة اختراق قام بها هاكرز، وهذه بدورها تمخضت عن مأساة، وما لبثت أن تبعتها كوميديا مأساوية.
ولعل هذا ما يجعل العناصر الفاعلة في هذه الأزمة تبدو كما لو كانت تعتبر هذه الحالة مؤقتة فقط: هناك فرصة كبيرة في أن يتم تناسي هذا التوتر ويتم التعامل معه كما لو أنه لم يحدث، وذلك بمجرد ظهور تغريدة معينة صباح الغد.
إنها فوضى وليست أزمة
نحتاج لأن نبدأ باستعراض الأحداث حتى نفصل بشكل واضح المسببات الخطابية للأزمة عن خلفيتها الجيوسياسية الحقيقية والخطيرة.
والحقيقة هي أن ما نحن بصدده يحمل سمات الفوضى أكثر مما يحمل سمات الأزمة: تتجلى الفوضى السياسية في الخليج في ظلال الأزمة السياسية العالمية.
لو كانت هذه أزمة عميقة وشاملة بدلاً من كونها فوضى، لكنا قادرين على تحديد حركياتها ومسبباتها الملموسة وتداعياتها المحتملة. ولذلك فإن ما يقدم على أنه “أزمة قطر” ما هو إلا حالة من الفوضى.
لا شيء يشرح الأزمة “المزعومة” بشكل مرضي، لا نقاط الاختلاف بين قطر والمملكة العربية السعودية والتي تعود إلى ربع قرن مضى، ولا الاعتبارات الجيوسياسية المتعلقة بالطاقة، ولا خارطة التحالفات في الخليج.
إن التعامل مع هذا الوضع على أنه أزمة – أي كحالة مضطربة وغير منظمة لمسألة موغلة في القدم أو كتقلب كامن في سلوك منظومة ما– قد يجلي الأمور إلى حد كبير بالنسبة لنا.
كل من ينشر قائمة مطالب يشترط على قطر تنفيذها كما لو كان مختطفاً يحتجز مجموعة من الرهائن فهو إنسان في حالة من الاضطراب الذهني الشديد– شخص بلغ من الحماقة ما يجعله يطلب أي شيء في تلك اللحظة.
ليس مفاجئاً، رغم ذلك، أن كل ما نشر حتى الآن من مقالات وتحليلات حول هذه “الأزمة” ينتهي بطريقة أو بأخرى بسؤال واحد صريح أو ضمني، ألا وهو: “ما الذي يريدونه فعلياً من قطر الآن؟”
وعلى الرغم من أن الخليج صدرت عنه قائمة بالمطالب والشروط إلا أن المدهش أن طلباته هذه لا يأخذها أحد على محمل الجد. بدلاً من ذلك يستمر الكثيرون في توجيه السؤال التالي: “ما الذي تريدونه فعلاً”؟ ثم يتبعون ذلك بالسؤال التالي: “لماذا تريدونه ولماذا الآن؟”
أزمة مدفوعة بالإسلاموفوبيا والخوف من الإسلاميين
نحتاج لأن نعترف بأن التحليلات السياسية والقراءات الجيوسياسية والسياسات المتعلقة بالطاقة لا تفسر فوضى الخليج لأن لا شيء منها يلعب دوراً مهماً في الوضع السائد.
علينا أن نقول بشكل صريح ومباشر إن ما يسمى بأزمة قطر ما هو سوى حالة من الإسلاموفوبيا ولدتها الشعبوية الأطلسية والخوف من الإسلاميين في منطقة الخليج.
وما يزيد الأمور سوءاً هو أن القرارات الشخصية التي تتخذ خارج إطار المؤسسات والأعراف السياسية تسعر من هذه الأزمة، كما اتضح بجلاء من خلال قائمة الشروط الخليجية وحقيقة أن وزارة الخارجية والبنتاغون وغيرهما من مؤسسات داخل الولايات المتحدة نأت بنفسها عن هذه الشروط مخالفة بذلك الرئيس ترامب نفسه.
في نهاية المطاف، اللاعبون المتورطون في الفوضى ما هم سوى أمير وملك ورئيس، إنه مثلث خليجي غريب ومريب. أما وزارات الخارجية والقوى الإقليمية ووزارات الدفاع فكأنه لا وجود لها على الإطلاق.
وهنا ينتهي التحليل السياسي والجيوسياسي وتبدأ الصحافة. بالاعتماد على الصحفيين الاستقصائيين قد يحصل الجمهور في الأيام القادمة على معلومات تسلط الضوء على الحركيات والعناصر التي يتشكل منها هذا المثلث الخليجي.
الذهنية وليس المطالب والشروط
نحتاج في نفس الوقت إلى التأمل في الذهنية التي أوجدت قائمة المطالب والشروط بدلاً من التركيز على البنود الواردة فيها. فهذه هي نفس الذهنية التي توجد في القلب من المحور الذي سفك الدماء وعطل التغيير وقمع الربيع العربي. إنها نفس الذهنية التي تقف وراء الإسلاموفوبيا المتصاعدة في الغرب وتفاقم من ظاهرة الخوف من الإسلاميين.
لا خلاف بين أصحاب العقول المستنيرة سياسياً في أن تنظيم الدولة الإسلامية ومن على شاكلتها من منظمات، والتي تعتبر العدو اللدود للحركات الإسلامية التي تطالب بالتغيير الديمقراطي في الشرق الأوسط، تتغذى على ظاهرة الخوف من الإسلاميين. ولذلك لا ينتج عن الحرب التي تشن على الحركات الإسلامية غير العنفية سوى تعزيز المنظمات الإرهابية من أمثال تنظيم الدولة الإسلامية وتنظيم القاعدة.
انطلاقاً من هذا المنطق، يبرز سؤال مشروع: لماذا يتمنى البعض للمجموعات التي على نسق تنظيم الدولة أن تصبح أقوى؟ الجواب المعقول على ذلك هو: يرى الزعماء الذين يعانون من الإسلاموفوبيا أن مطالب التحول الديمقراطي أكبر خطراً عليهم من الجماعات الإرهابية المسلحة.
ولهذا السبب يتم تصوير جماعة الإخوان المسلمين، والتي ترفض العنف وتعارض التسلح، على أنها بعبع مرعب. وكلما صرحت جماعة الإخوان المسلمين قائلة “لن نلجأ إلى العنف، وسوف نستمر في نضالنا الديمقراطي” كلما تسارعت وتيرة تصنيفها منظمة إرهابية. وكلما وعدت حماس بانفراجات سياسية جديدة في الأراضي المحتلة كلما زاد اتهامها بالإرهاب.
بالنسبة لمن يعاني من الإسلاموفوبيا تبدو جميع الحركات الإسلامية سواء، مثلها مثل القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية، وذلك على الرغم من أن المنظمات الإرهابية مثل تنظيم الدولة وتنظيم القاعدة يعتبرون منذ البداية الإسلاميين الذين يؤمنون بالعمل السلمي في سبيل التحول الديمقراطي أعداء لهم.
ليس بوسع جماعة الإخوان المسلمين أن تكون منظمة إرهابية حتى لو حاولت لأنها، كما هو حال حركة حماس، حركة ذات جذور تاريخية ومفاهيم دينية راسخة، وفلسفة صلبة، وتقاليد سياسية ناضجة. ومن هنا يصبح إيراد اسمها في نفس القائمة التي يوجد فيها اسم تنظيم الدولة أمراً عبثياً.
أما تنظيم الدولة الإسلامية ومن على شاكلته فهي تنظيمات إرهابية ظلامية برزت بعد الاحتلال الغربي وبسبب نمط مشوه من التدين المتمركز في منطقة الخليج. كما أن تنظيم الدولة وتنظيم القاعدة ينتعشان في أجواء وكالات الاستخبارات السرية تحت الأرض، أما الإخوان المسلمون وغيرهم من الحركات الإسلامية غير المسلحة فهي أحزاب سياسية تزدهر بين الناس وفوق الأرض.
إن الذين يرفضون الاعتراف بهذه الفروق إنما يحاولون استغلال الوضع الصعب الذي تجد فيه نفسها حركات التغيير السلمي نحو الديمقراطية بعد أن تمكنت الثورة المضادة من إحباط ثورات الربيع العربي.
ولكن لن ينجم عن ذلك شيء إيجابي واحد على المدى البعيد. قد يبدو استيراد ونقل “الحظر الإسلامي” بحيث يصبح “حظراً لقطر” تمريناً سياسياً مثيراً، ولكنه أمر في غاية الخطورة.