تتجاوز الأزمة الخليجية الراهنة ما قد يبدو ظاهراً باعتبارها “خناقة” حول مسألة الإرهاب، فمن يقرأ التصريحات والبيانات التي أشعلت الأزمة، والتي خرجت من الإمارات والسعودية، يكتشف بسهولة أن المسألة تضرب بجذورها في التاريخ والجغرافيا وصراع الأدوار الإقليمية. ويظل المثير في الأزمة، وإنْ لم يكن مفاجئاً، هو حجم الدور الإماراتي في التخطيط لها، وإشعالها، وتغذيتها بشكلٍ يعكس الرغبة في استمرارها، وذلك عبر استراتيجيات ورهانات كثيرة معقدة. ولا مبالغة في القول إن الإمارات أصبحت المحرك الرئيسي للأحداث في الخليج وخارجه، ومن المتوقع أن يستمر هذا الأمر بعض الوقت.
تسعى الإمارات إلى أن تصبح لاعباً إقليمياً نافذاً، بانتهاج دبلوماسية جريئة وصاخبة غير معهودة على الدولة الصغيرة، التي كانت واحةً للهدوء السياسي عقوداً، وذلك في قطيعةٍ تامة مع إرث مؤسس الدولة، الشيخ زايد، الذي كان يتبع الدبلوماسية الهادئة في بناء دولته منذ السبعينيات وحتى وفاته عام 2004، وهي الاستراتيجية نفسها التي استمرت بعض الوقت مع تولي ابنه الأكبر، خليفة بن زايد، قبل أن يتم تهميش الأخير لمرضه، ويصبح ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد، الحاكم الفعلي للبلاد، ويدير سياستها الداخلية والخارجية منذ حوالي عقد.
اتضح الدور الإماراتي في المنطقة بشكل كبير بعد ثورات “الربيع العربي”، انطلاقاً من أمرين: أولهما حالة الفزع والرعب التي أصابت أبوظبي، مثلما أصابت جيرانها السلطويين، من إمكانية انتقال عدوى التغيير إليها، وبالتالي إطاحة الثوابت التي عاشت عليها الدولة منذ نشأتها، خصوصاً مع وجود معارضة شبه منظمة، تمثلت في حركة الإصلاح المحسوبة على جماعة الإخوان المسلمين. وثانيهما، انهيار معادلة التوازن الإقليمي القديمة التي كانت تجمع محور “الاعتدال”، بحسب الصيغة الأميركية، والذي ضم إلى جانب أبوظبي كلا من الرياض والقاهرة وعمّان، وذلك في مواجهة ما كان يسمى محور الممانعة الذي كان يضم سورية وإيران وبعض الفاعلين ما دون الدولة، مثل حزب الله اللبناني وحركة حماس الفلسطينية. وزاد من قلق أبوظبي تبنّي الدوحة الثورات العربية، ودعمها إعلامياً من خلال قناة الجزيرة التي كانت منصّة للمتظاهرين والثوار العرب.
بدأت أبوظبي في التحرك سريعاً لاحتواء آثار “الربيع العربي”، وتقليل تداعياته بكل الطرق. تم ذلك بوضع استراتيجيةٍ تقوم على ثلاثة محاور، أولها، السعي إلى إجهاض الثورات العربية، خصوصا في أهم مراكزها وأكبرها، وهو مصر، من خلال التحالف مع القوى القديمة، ودعمها بالمال والإعلام والدبلوماسية. ثانيها، تحقيق اختراق سياسي للدول المركزية في المنطقة، ومحاولة التأثير عليها، وتشكيل سياساتها الخارجية، بشكل يتناغم مع الأهداف الإماراتية. لذا كان التركيز على مصر أولاً، والسعودية لاحقاً. وثالثها، حصار مراكز دعم وتأييد “الربيع العربي”، والتخلص منها، وخصوصا تركيا وقطر.
من أجل ضمان نجاح هذه الاستراتيجية، كان على أبوظبي أن تضمن أمرين: تحييد الموقف الأميركي تجاه تحركاتها في المنطقة، قبل تجييره لصالحها لاحقاً. والاستثمار الهائل في مراكز القوى الجديدة في مصر والسعودية، من أجل السيطرة على قرارهما.
بالنسبة للمحور الأول في الاستراتيجية، قامت أبوظبي بالتخطيط والتجهيز والإعداد لانقلاب 3 يوليو/ تموز 2013 في مصر، عبر ضخ مليارات الدولارت، وشراء كل ما ومن هو قابل للشراء من أجل دعم استراتيجيتها في قلب الأوضاع السياسية في مصر لصالحها، أملاً في الهيمنة على قرار القاهرة السياسي لاحقاً، وهو ما تحقق، فقد استغلت أبوظبي الأخطاء الفادحة لجماعة الإخوان المسلمين وبقية القوى السياسية وفشلها في إدارة خلافاتها السياسية، من أجل التمهيد لعودة العسكر إلى السلطة، فشكلت حركة تمرد، ومدتها بالمال والدعم الإعلامي، واشترت ولاءات المؤسسات الإعلامية والصحافية في مصر، من أجل شيطنة الثورة المصرية، ومساعدة النظام الجديد على قمعها والإجهاز عليها.
بالنسبة للمحور الثاني، نجحت أبوظبي في السيطرة، ولو مؤقتا، على صانعي القرار في كل من مصر والسعودية. في الأولى، تم ذلك بتقديم كل أشكال الدعم السياسي والدبلوماسي والمالي والاقتصادي للنظام الجديد وضمان بقائه. ومولت كل حملاته الترويجية خارجياً عبر أذرع إعلامية ودبلوماسية نشطة. وكشفت التسريبات للسفير الإماراتي في واشنطن، يوسف العتيبة، أخيرا، عن حجم النفوذ الذي يتمتع به الرجل في دوائر سياسية ودبلوماسية وبحثية وإعلامية أميركية، واستخدامه هذا النفوذ من أجل دعم نظام عبد الفتاح السيسي وتسويقه خلال الأعوام الأربعة الماضية. وقد استخدم العتيبة كل الأساليب المتاحة، من أجل شراء ولاءات سياسيين ودبلوماسيين وإعلاميين وباحثين من أجل الاستعداد للمعركة المصيرية مع قطر، على نحو ما كشفت التسريبات. أما في الثانية، فقد نجح محمد بن زايد في الاستفادة من ارتباك المؤسسة الحاكمة في السعودية، خصوصا في ما يخص ملف خلافة الملك سلمان بن عبد العزيز. وقد نجحت أبوظبي في السيطرة على أحد الأجنحة المتصارعة على السلطة، وهو جناح ولي ولي العهد محمد بن سلمان، على حساب جناح ولي العهد، الأمير محمد بن نايف، وهو الأمر الذي لم يعد سراً، بل تؤكده وقائع كثيرة.
وبذلك تكون أبوظبي قد نجحت في السيطرة، ولو مؤقتاً، على صنّاع القرار في أكبر دولتين عربيتين، هما مصر والسعودية، وقد تم ذلك بنوعٍ من المباركة والتنسيق مع الأميركيين والإسرائيليين. وهنا تفاصيل صغيرة، لكنها مهمة تتعلق بالزيارات المكوكية التي قام بها محمد بن زايد لنيويورك عقب فوز دونالد ترامب بالرئاسة أواخر العام الماضي، وعقده صفقاتٍ سياسية مع مستشاري ترامب، وأهمهم زوج ابنته، جاريد كوشنير، وهو ما كشفته تقارير إخبارية أميركية كثيرة. كذلك بالوساطة التي قام بها محمد بن زايد بين الرياض وتل أبيب، بذريعة “مواجهة إيران”، وهي الوساطة التي تُرجمت في التحالف الراهن بين السعودية وإسرائيل، وتتحدث عنه الأخيرة بكل فخر.
وخلال الصيف الماضي، انتقلت أبوظبي إلى المحور الثالث من استراتيجيتها، وهو محاولة حصار تركيا وقطر والتخلص من دوريهما. وبعد أن فشلت فشلاً ذريعاً في الأولى بعد سقوط محاولة الانقلاب، انتقلت إلى الثانية، من خلال افتعال الأزمة الراهنة مع قطر، وسعيها الحثيث إلى تأليب الإقليم والعالم وتحريضهما على الدوحة. وعلى ما يبدو، وقعت السعودية في الفخ الإماراتي بشكل كبير، وتسير الآن خلف أبوظبي في تعميق الأزمة، ليس انطلاقاً من مصلحتها الذاتية، وإنما من حساباتٍ ضيقةٍ وصراعٍ شرس على السلطة، يحاول محمد بن سلمان حسمه لنفسه بأكبر سرعة ممكنة، ولو على حساب وحدة البيت والقرار الخليجي.