كل المؤشرات تدل على أن العالم العربي محكوم إلى حد كبير بحالة عدم الاستقرار؛ إذ كلما هدأت أزمة وتوقفت حرب أنبتت البيئة العربية خلافا جديدا يتراكم تدريجيا، إلى أن يتحول إلى حريق يأكل الأخضر واليابس.
فما تتمتع به المنطقة من ثروات وفرص يعتبره آخرون متربصون، وفي مقدمتهم العديد من الاستراتيجيين الغربيين والأمريكان، “خطأ إلهيا يجب العمل على تصحيحه”، كما قال كيسنجر ذات يوم.
وهو يقصد بذلك أنه ليس من المنطق أو الحكمة أن يتمتع العرب بكل هذه الثروات التي من خلالها يمكن أن يتحكموا في قوى عظمى في حين أنهم غير مؤهلين للقيام بمثل هذا الدور. ولهذا يجب وضعهم تحت الوصاية، أو إثارة القلاقل بينهم أو بينهم وبين جيرانهم حتى يتم إضعافهم واستنزاف ثرواتهم لصالح الأقوى والأقدر.
ما يجري حاليا في منطقة الخليج يصب في نفس الخانة، وسيؤدي إلى نفس النتائج التي آلت إليها نزاعات وحروب سابقة مثل الحرب العراقية الإيرانية، أو غزو العراق للكويت أو مشروع تغيير النظام السوري بالقوة. دائما كان الحصاد مخالفا للمقاصد التي تخيلها المبادرون للحرب.
اليوم، وخلافا لما تم توقعه في البداية، لم تجد قطر نفسها بدون سند. لقد قفزت دولتان إقليميتان من الحجم الثقيل رغم خلافاتهما الضخمة وهما تركيا وإيران لاستغلال الفرصة، حيث سارع كل واحد منهما نحو الدوحة لتقديم خدماته الاقتصادية والعسكرية بحجة إنقاذها من أشقائها.
ولم يقتصر الأمر على ذلك، وإنما أخذت الرقعة تتسع لتشمل أيضا ألمانيا وعددا من دول الاتحاد الأوروبي، وهو ما جعل الرئيس ترامب يعدل عقارب ساعته بعد أن تحركت المؤسسات الأمريكية الرئيسية في اتجاه معاكس لحساباته الذاتية.
وجميع هذه الأطراف ما كانت لتهتم بقطر لو كانت هذه الأخيرة لا تملك أوراقا عديدة، ومن بينها قدر كبير من النفط والغاز. وبالتالي فإنه كلما اشتد الضغط على الدوحة إلا وتقلص هامش حرية الاختيار لدى قادتها. فأنت عندما تدخل في خصومة مع أحد، وتحرص على تجريده من جميع أسلحته، ولا تترك له منفذا لخروج آمن فإنه سيقاتل بكل شراسة حتى آخر رمق. إن السياسة شيء آخر مختلف عن أسلوب الدفع بالخصم نحو سيناريوهات مخيفة مثل الانتحار أو رفع شعار “علي وعلى أعدائي”. هنا تبرز أهمية الحكمة والتعقل السياسي.
في تونس ساعة فريدة من نوعها في العالم. وهي ساعة حائطية تتصدر مدينة تستور. هذه المدينة التي استقر بها جزء من الأندلسيين عندما فر الكثير منهم من بلاد الأندلس بعد أن سيطر عليها الإسبان.
وما يميز هذه الساعة كون عقاربها تتحرك في الاتجاه المعاكس لكل الساعات التي تمت صناعتها إلى حد الآن. فجميع الساعات تتجه عقاربها نحو الأمام إلا ساعة مدينة تستور فإن عقاربها تتحرك في الاتجاه المعاكس، هي تتأخر ولا تتقدم.
ولم يكن ذلك أمرا عبثيا، وإنما هو رسالة رمزية أراد من خلالها مخترع هذه الساعة أن يشعر بها الأندلسيين بأن مجدهم تركوه خلفهم، وأن عليهم وعلى أبنائهم وأحفادهم عدم نسيان فردوسهم الذي ضاع من بين أيديهم في يوم ما حين طردوا شر طردة ليجدوا أنفسهم يعيشون في الشتات بلا وطن أو هوية.
لكن مع أهمية هذا الاختراع، ومع نبل الرسالة التي ارتبط بها وأراد احبها تبليغها إلى مختلف الأجيال المتلاحقة، إلا أن حركة التاريخ لا تعود إلى الخلف، بل هي حتما تتقدم نحو المستقبل. صحيح أن هذه الساعة الأندلسية قد ساعدت على حفظ الذاكرة، ولكنها لم تغير شيئا من واقع الأندلسيين.
للعرب مشكلة مركبة مع الزمن. يتجلى ذلك في عديد المناسبات. فهم غالبا ما يتحركون في الوقت الضائع، ويتخذون القرارات في غير سياقها وفي غير موعدها. ليست كل قراراتهم خاطئة، ولكنهم ينسخون الصائب منها في لحظة غضب أو ضعف أو سوء تقدير أو بدافع الانخراط في أوهام أو بناء على نصائح تقدم لهم من حسود أو عدو في ثوب صديق.
لهذا؛ يعتقد بعض المؤرخين أن العرب لم يدخلوا بعد التاريخ الذي خرجوا منه على إثر انهيار الخلافة العثمانية. تراهم يضعون القدم داخل دائرة العصر، ويتقدمون خطوات في الاتجاه الصحيح، لكنهم سرعان ما يتوقفون ويتجادلون ثم يختلفون ثم يطلقون النار على بعضهم البعض، وفجأة يجدون أنفسهم مرة أخرى خارج دائرة اللحظة التاريخية، يندمون لفترة ما ثم يكررون نفس المحاولة حين يطرقون من جديد باب المعاصرة ويطلبون الدخول من جديد !!