إذا كان من الصعب الحكم في تداعيات الأزمة الخليجية على مستقبل سياسات قطر وإعلامها ودورها في المنطقة، فإن الحكم على الخسائر الاستراتيجية التي ستمنى بها السعودية بعد انتهاء الأزمة، ليس أمرا بالصعوبة ذاتها!
تعتمد خسائر أو مكاسب الدوحة على مسارات الأزمة القادمة، وعلى طبيعة تفاعل مكونات الإدارة الأمريكية المتناقضة تحت ترامب تجاهها، وعلى الدور التركي في دعم قطر، وعلى الموقف الأوروبي والألماني تحديدا، وهو أمر يجعل من الصعب على أي محلل أن يتوقع بدقة نتيجة الصراع من زاوية تأثيرها على قطر، ولكن الخسائر السعودية الاستراتيجية من هذا الزلزال واضحة وممكنة التوقع، بغض النظر عن المسارات التي ستسلكها الأزمة.
نهاية مجلس التعاون الخليجي
إن أهم خسائر السعودية على المدى المتوسط والبعيد هي نهاية مجلس التعاون الخليجي كما كنا نعرفه قبل يوم 5 حزيران الجاري. لن يعود هذا المجلس كما كان، بعد أن لجأت الدولة الكبرى فيه إلى حصار دولة جارة وصغيرة وعضو في المجلس؛ إذ إن دول الخليج لم تلجأ لمثل هذه الأساليب العنيفة في تاريخ صراعاتها منذ تأسيس مجلس التعاون في أعقاب “الثورة الإسلامية الإيرانية”، وظل المجلس محافظا على تماسكه في أحلك الظروف، وفي أسوأ الخلافات؛ نتيجة للتعامل “الأخوي” في حل الخلافات، والطابع البدوي القبائلي لشعوب المجلس ودوله.
استطاع مجلس التعاون الخليجي أن يمثل حالة نادرة من الفاعلية بين المجالس الإقليمية الفاشلة والهشة في العالم العربي، وكان يعدّ نموذجا على التماسك والدبلوماسية، ولكن هذه الحالة أصبحت جزءا من التاريخ بعد “حصار قطر”، إذ اتخذت “الشقيقة الكبرى” قرارا بالتصعيد والحصار والمقاطعة لجارتها الصغيرة، حتى دون أن تقدم “طلباتها” لهذه الجارة، ودون أن تطلب اجتماعا لمجلس التعاون لنقاش الخلاف وإمكانية حله قبل أن تتخذ قرار الحصار، فيما صمتت الأمانة العامة للمجلس صمت القبور، بينما يتحدث مسؤولو دول العالم والإقليم عن الأزمة بشكل يومي.
مهما كانت نتيجة هذا الزلزال المرحلية، فإن مجلس التعاون لن يعود كما كان، وستنتهي أعراف “العائلة” التي كانت تسود في التعامل مع أزمات الخليج، وستبحث كل دولة عن تحقيق أمنها ومصالحها بعيدا عن المجلس الذي بدا كجثة هامدة في ظل حصار بعض دوله ضد دولة أخرى عضو فيه.
ولكن ماذا ستعني نهاية مجلس التعاون بالنسبة للسعودية؟ إنها تعني، باختصار، نهاية موقع “الشقيقة الكبرى” للخليج، وللأبد!
خسارة الكويت وعمان
حاول أمير الكويت لعب دور إيجابي في حل الأزمة، وانتقل بين الرياض و أبو ظبي والدوحة للوصول إلى تسوية بين الأشقاء، ولكنه عاد للكويت دون تصريحات أو أي بشائر لإنهاء الصراع، وهو ما يعني أنه فشل، حتى الآن، في تحقيق ما استطاع تحقيقه في أزمة سحب السفراء عام 2014.
أما سلطنة عمان، فقد صمتت تماما، ولم تصدر أي تصريح أو عمل دبلوماسي أو موقف تجاه الأزمة، وهو ما يعني ابتداء أن السعودية فشلت في حشد دول الخليج جميعها وراء خطواتها التصعيدية.
ولكن الأهم من هذا الفشل هو الخسارة الاستراتيجية المتمثلة بتحول السعودية من دولة جارة شقيقة، تختلف أو تتفق مع جيرانها، إلى دولة تريد أن تتغول على جيرانها الخليجيين، وأن تفرض عليهم سياستهم الخارجية، وهو ما سيدفع الكويت وعمان للبحث عن أوراق قوة وتحالفات جديدة، وربما “غير متوقعة”؛ لحماية نفسيهما من الجار الأكبر الذي قد يقرر يوما أن يحاصرهما لأسباب تتعلق بسياستهما الخارجية أو اختلافهما مع الرياض في هذا الموقف أو ذاك.
كانت دول الخليج تعتقد أنها محمية “بفضل” التحالف مع الولايات المتحدة، وأنها يمكن أن تعتمد على واشنطن التي ستحافظ على توازنات الخليج واستقراره، باعتبارها منطقة حيوية ومهمة للأمن القومي الأمريكي. ولكن الأزمة أظهرت أن الاعتماد على توازنات أمريكا غير كاف، وأن وصول رئيس غير متزن مثل ترامب للبيت الأبيض يمكن أن يسمح للسعودية أن تغير هذه التوازنات، وأن تهدد حياة واستقرار هذه الدول وشعوبها حينما تقرر ذلك، وهو ما سيدفع هذه الدول للبحث عن علاقات وتوازنات أخرى لضمان مصالحها وأمنها، الأمر الذي سيهدد ليس فقط السعودية، بل حتى المصالح الأمريكية في المنطقة.
لقد بدأت الأزمة بعد قرصنة وكالة الأنباء القطرية ونشر بيان مزعوم لأمير قطر، نفت صحته الدوحة، ثم تحول الخطاب السعودي الإماراتي للتركيز على عدة عناصر للخلاف مع الدوحة، تتركز جميعها في سياسة قطر الخارجية.
ولكن المتتبع للسياسات الخليجية سيجد أن هذه التهم يمكن أن تساق من أي دولة ضد أخرى،
في ظل وجود عدد من الخلافات الطبيعية في السياسة الخارجية بين جميع دول الخليج، بما في ذلك الخلافات بين الإمارات والسعودية في بعض الملفات الحيوية، وهو ما سيدفع صانع القرار في هذه الدول، خصوصا عمان والكويت، للتساؤل: ما الذي سيمنع السعودية أن تقرر حصار هذه الدولة أو تلك بذريعة اختلاف سياستها الخارجية؟ هذا التساؤل هو النتيجة الحتمية لزلزال الخليج، وهو تساؤل سيدفع الكويت وعمان، بلا شك، للبحث عن وسائل حماية غير تقليدية، حتى لا تصبحان يوما في الموقف الحرج الذي وجدت قطر نفسها فيه.
قطر “جديدة” بعد الزلزال
مهما كانت نتيجة الصراع الحالي، ومهما كانت التنازلات التي قد تضطر الدوحة لتقديمها للسعودية في نهاية الأزمة بعد أيام أو أسابيع أو أشهر، فإن قطر ما قبل الأزمة هي غير ما بعدها.
أدركت قطر أن علاقاتها مع واشنطن، ووجود قاعدة العديد العسكرية على أراضيها، لم تشكلان حصانة لها من حصار جيرانها، وهو ما سيدفعها إلى اتخاذ إجراءات بعيدة المدى بعد أن تلتقط أنفاسها، ولو بعد حين. هذه الإجراءات ستفقد السعودية موقع “الشقيقة الكبرى” أولا، وستجعل حدودها مع قطر مفتوحة على كل الاحتمالات.
ستوثق قطر علاقاتها العسكرية مع تركيا، ومن المؤكد أنها ستسعى بعد انتهاء الأزمة إلى زيادة عدد الجنود الذين ستضمهم القاعدة التركية على أراضيها، ومن المحتمل أن توقع اتفاقية دفاع مع الباكستان كما سربت صحيفة تركية مقربة من حزب العدالة والتنمية قبل يومين، وبالتأكيد فإنها ستعيد النظر بطبيعة علاقاتها مع إيران ولو على الأقل لجهة إنهاء حالة الصراع بينهما. هذا يعني أن السعودية ستجد نفسها على حدود دولة تقيم معاهدات دفاع مع دول أجنبية (تركيا والباكستان)، كما أنها ستكتشف أنها دفعت الدوحة دفعا لتحسين أو على الأقل لتطبيع علاقاتها مع طهران، بعد أن ساءت العلاقة بينهما بسبب الخلاف في سوريا، وتحالف قطر مع الرياض في اليمن.
وإضافة للخسارة السياسية والاستراتيجية فإن النموذج الاقتصادي القطري سيتغير حتما بعد الأزمة، بما يضر بالمكاسب الذي يحققها التاجر السعودي من التصدير لقطر، إذ لا يمكن لدولة أن تستمر باعتمادها على دولتين جارتين حصريا بعد أن أدركت أنهما يمكن أن يحاصرانها في حالة الخلاف السياسي، وستلجأ الدوحة غالبا لإقامة مصانع غذائية على أراضيها بالتعاون مع الحليف التركي، الذي سيستفيد هو الآخر من الأزمة اقتصاديا.
“اللي يحضر العفريت يصرفه”!
يقول المثل المصري: “اللي يحضر العفريت يصرفه”، وهو مثل يعني فيما يعنيه أن من يستخدم إجراء ما للحرب على خصومه، عليه أن يحسب حساباته جيدا قبل استخدامه، وأن يتأكد أنه قادر على منع تضرره شخصيا من هذا الإجراء.
تدحرجت كرة المطالب والاتهامات الموجهة من السعودية والإمارات والدول التابعة لها بشكل مرتبك ومتسارع في الوقت نفسه، حتى استقرت هذه الاتهامات على مزاعم دعم قطر للإرهاب، مع ما شاب هذه المزاعم من ارتباك بتحديد هوية هذا الإرهاب، بين الإخوان وحماس وأسماء وكيانات أخرى ضمتها قائمة “الشخصيات والكيانات الإرهابية” التي أصدرتها كل من الرياض وأبو ظبي والمنامة.
ها هي السعودية إذن حضرت “عفريت” الإرهاب لتواجه به قطر، ولكن هل تستطيع الرياض أن تصرف هذا “العفريت” بعد أن تنتهي الأزمة؟ ألا تضع الرياض المبررات لاستهدافها مستقبلا بنفس التهمة من قبل دول إقليمية ودولية، خصوصا وأنها ترعى المذهب الوهابي الذي يتهم من قبل كثيرين بالمسؤولية عن ظاهرة التوحش والإرهاب الذي تمثلها منظمات وجماعات تدعي أنها “إسلامية، سلفية جهادية”؟ كيف يمكن للمملكة التي استخدمت هذا “العفريت” أن تواجه قانون جاستا الذي يسعى واضعوه لمعاقبة السعودية أساسا وكيف ستدافع عن نفسها وهي معرضة أكثر لهذا الاتهام من قطر أو من أي دولة أخري في المنطقة؟
لقد راهنت الرياض على اللحظة “السانحة”، وقدرت أنها ستتمكن من تحقيق أهدافها و”كسر” الدوحة مرة واحدة وللأبد، في ظل حكم رئيس أمريكي متخبط حصل على استثمارات سعودية بمئات المليارات، لكنها لم تحسب -على ما يبدو- أن “عفريت” الإرهاب الذي “حضرته” قد يرتد إليها حينما تقرر واشنطن ذلك، في لحظة غير “سانحة” لا بد أنها ستأتي يوما ما!