ليس هناك ما يدعو إلى الدهشة من تصريح دونالد ترامب، بشأن “القادة الذين أشاروا إلى قطر عند حديثه عن مواجهة الإرهاب”، فالثابت أن هؤلاء “الذين يقودون” يمارسون الوشاية ضد الأشقاء منذ أمد بعيد، بل إن بعضهم تخطى مرحلة الوشاية إلى “الإبلاغ” بالمعنى الاستخباراتي المباشر.
يلفت النظر هنا أن الرئيس الأميركي، الأكثر عنصرية والأشرس رغبة في الابتزاز، يحاول تقمص شخصية البريء الذي لا يعلم أكثر مما يبلغه به القادة العرب، وكأنه ليس رئيساً لبلد يمتلك أقوى جهاز استخبارات في العالم، يستطيع من خلاله أن يعرف الحدث قبل وقوعه، كما جرى مع حوادث الإرهاب في مصر، ويراقب كل شبرٍ في العالم على مدار الساعة.
بالتأكيد، يعلم ترامب عن الإرهاب أكثر مما يعلم الجميع، وليس من قبيل المبالغة الذهاب إلى أنه يعرف أكثر كيف يستثمر الإرهاب، ويهزّه هزاً فيتساقط على واشنطن مليارات و”وظائف وظائف”، والمؤكد أنه درس جيداً ما يدور في عقول الذين استقبلوه وقلبوبهم، وعرف كيف يلعب عليه ويستخرج، له وللوطن وللعائلة، كل ما يحلم به.
نعم، ترامب تاجر دين، شاطرٌ ويعرف كيف يصل إلى ما يريد، فهو ماهرٌ في الاستثمار في اللحظة، والاستثمار في المدى البعيد، ويفهم كيف يستدعي الإرهاب، وكيف ومتى يسيّره، فيحصد الثمار.
في فاجعة الحادث الإرهابي في محافظة المنيا، صعيد مصر، كان ترامب يعلم قبلها بيومين، وسفارته حذّرت، وبعد أن سالت الدماء، أطلّ رجل أعمال البيت الأبيض بوجهه ليرتدي مسوح البابا الأعظم، ويتحدّث عن حماية الطوائف المسيحية، بينما أحد صبيانه يقصف المدنيين في ليبيا، تثبيتاً لصبي آخر، مطابق للمواصفات.
والقصة عند ترامب ليست إسلاماً ومسيحية، فلا هو لديه موقفٌ مبدئي من الإسلام، ولا هو راعي المسيحية في العالم، ترامب عقيدته هي الدولار، ومن ثم تتغير مقولاته وتتبدّل، حسب المكان الذي يقف فيه، ويحصد منه الغنائم، وعلى ذلك يتأرجح بين حالتي الزعيم المهووس بالكراهية للإسلام، بإطلاق، والصديق الذي يحترم إسلام الانقلابات العسكرية، ممثلاً في عبد الفتاح السيسي، ويقدّر الإسلام المعتدل “البترودولاري”.
وهو في الحالتين، وكما علقت على خطابه الانتخابي، يستثمر في محاولة استئناف صراع ديني قديم، يتوهم أنه يستطيع، من خلاله، تحقيق مكاسب مادية للامبراطورية المرهقة، فيتاجر بالدين داخل حوانيت السياسة والاقتصاد، تماماً كما غلّف جد الغزاة الأكبر، كريستوفر كولومبوس، مشروعه للعثور على الذهب والمال في الأرض البكر، بشعارات الدين المسيحي، فتقرأ في رسالته إلى البابا إليكسندر السادس سنة 1502 “رحلتي القادمة سوف تكون إلى مجد الثالوث المقدس ومجد الدين المسيحي المقدس .. أتمنى من ربنا أن يهبني القدرة على نشر اسمه المقدس وإنجيله في أرجاء الكون”.
وفي المقابل، فهم عرب الانقلابات، والثورات المضادّة، سيكولوجية ترامب، وعرفوا مداخلها، ومن ثم حشدوا كل إمكاناتهم للاستثمار في هوس ترامب وكراهيته، وأيقنوا أن اللحظة باتت سانحةً لكي يحسموا أمرهم، ويعلنوا عن اصطفافهم مع العدو الذي يريده ترامب صديقاً وشريكاً، ويطعنوا الشقيق الذي تشتعل صدورهم بالغل ضده.
ومن هذه الزاوية، تتضح الصورة أكثر، ويرفع الستار عن مشهدٍ ينتمي بالكلية إلى أنهم، في هرولتهم المتشنجة للاتحاق بالركب الإسرائيلي، لا يتورّعون عن دهس الشقيق، قرباناً للعدو الذي صار حليفاً وصديقاً، وعلى ضوء ذلك من المنطقي أن يكون الكيان الصهيوني، وتابعه في القاهرة، الأكثر ابتهاجاً بالرياح السياسية السامة التي تهب على قطر.
ولعلك تذكر أنه بعد انقلاب عبد الفتاح السيسي مباشرةً، اشتعلت الدوائر السياسية والإعلامية الصهيونية بالحماس والدعوة إلى استغلال الانقلاب في تعزيز التعاون مع السلطات الجديدة من أجل ما أسمته “تشديد الحرب على الإسلاميين”، فذهب قائد سلاح البحرية الإسرائيلي السابق، إليعازر مروم، في مقال نشرته صحيفة “إسرائيل اليوم” إلى ضرورة تزويد سلطة الانقلاب بالمعلومات اللازمة في حربها ضد الإسلاميين، على اعتبار أنهم يمثلون عدوا مشتركا لإسرائيل وللسيسي.