بعد وقت قصير من انطلاق المدافع الثقيلة لوسائل الإعلام المملوكة للإمارات والسعودية لتقصف قطر بصلياتها، انتهى المطاف بجارتهم طريحة بين الأنقاض ينبعث منها الدخان، ولم تعد قادرة على استضافة أحد أو أي شيء، ناهيك عن أن تستضيف كأس العالم. على الأقل هكذا تصوروا حالتها أو تمنوا أن يكون هذا هو مصيرها.
بلغت المزاعم ضد قطر حدا جنونيا من التضخيم والمبالغة، وتضمنت الزعم بأن قطر مولت كل الإرهابيين، وبناء عليه لا ينبغي السماح لقطر “بتخريب منطقتنا”، وعلى قطر أن تنحاز إلى جوارها ضد إيران. وأخيرا، هناك من خرج ليذكر أمير قطر بمصير محمد مرسي.
لم يأت التهديد بالإطاحة برئيس دولة عضو في مجلس التعاون الخليجي من شخص مجهول الهوية، بل صدر عن رجل مهمته تمثيل المصالح السعودية في الولايات المتحدة الأمريكية. إنه سلمان الأنصاري، رئيس لجنة شؤون العلاقات العامة السعودية الأمريكية، الذي غرد عبر حسابه في تويتر قائلا: “إلى أمير #قطر؛ بخصوص اصطفافكم مع حكومة #إيران المتطرفة وإساءتكم لخادم الحرمين؛ فأود تذكيركم بأن محمد مرسي فعل نفس الشيء وتم عزله وسجنه.”
إن تهديد نظام الحكم القطري هو ما يتصدر الصفحات الأولى من أخبار في الصحافة السعودية الآن.
محرر يستحق زيادة في الراتب
مثير للاهتمام أن يصدر ذلك بحق حليف أرسل قواته للمساهمة في حماية الحدود السعودية الجنوبية مع اليمن، وهو ما لم تقدم على فعله مصر. ويصدر بحق حكومة قامت بتسليم معارض سياسي إلى السعودية في اليوم نفسه الذي تعرضت فيه للهجوم بحجة تأييدها لإيران. ومن المثير للاهتمام أيضا أن ذلك كله يأتي بعد أن زار الملك سلمان قطر ورقص مع أميرها.
لربما لم يعد الملك على دراية بما يفعله باسمه ابنه البالغ من العمر ثلاثين عاما.
كان اختراق وكالة الأنباء القطرية في الرابع والعشرين من مايو / أيار مجرد الطلقة الأولى. بعد دقائق معدودة من الاختراق تقريبا في الساعة الثانية عشرة والربع بعد منتصف الليل، بدأت قناة العربية وقناة سكاي نيوز العربية بالاقتباس من النص المفبرك، ثم بدأت القنوات خلال عشرين دقيقة ببث تحليلات حول دلالات ما ورد في النص، وكذلك بث تصريحات وتغريدات صدرت تعليقا عليه.
تقول السلطات القطرية إن تلك القنوات في الفترة ما بين الساعة 12:51 بعد منتصف الليل والساعة 03:28 فجرا، تمكنت من إيجاد أحد عشر سياسيا ومحللا لاستضافتهم على الهواء للتعليق على الموضوع. ما من شك أن هذا جهد خارق لمحرر الفترة المسائية الذي كان فقط “يتفاعل” مع خبر جاءه في منتصف الليل، وبناء عليه فهو يستحق زيادة في الراتب!
المصادفة العجيبة الأخرى أن كل ذلك سبقه نشر ثلاثة عشر مقالا في الصحافة الأمريكية حول الخطر الذي تشكله قطر على الاستقرار في المنطقة. وهذا أمر محير، لأنه متى كان أحد يعبأ بكتابة مقالات عن قطر في الإعلام الأمريكي!
من الواضح أن تلك كانت هجمة دبرت بليل مع سبق الإصرار والترصد، إلا أن ما ليس واضحا هو لماذا، ولماذا الآن؟
معروف عن قطر منذ زمن دعمها للمنفيين السياسيين من مصر، سواء كانوا علمانيين أو إسلاميين، كما أنها آوت الزعيم السياسي السابق لحركة حماس منذ مغادرته دمشق. وأما الجزيرة فمعروف ماذا تعنيه وما الذي تقدمه، وذلك على الرغم من أنها بسبب الضغوط التي تمارس على قطر – مثل هذه التي تمارس الآن – أصبحت القناة مجرد ظل باهت لتلك الشبكة التي غطت أحداث الربيع العربي.
كانت تغطية الجزيرة لزيارة دونالد ترامب إلى الرياض غاية في التملق، وكذلك هي تغطيتها للحرب في اليمن، وهذا أمر حبك وروقب بعناية لتجنب إغضاب السعوديين. إذن ما هو بالتحديد ذلك الذي حرك عش الدبابير؟
هناك عدة دوافع محتملة للقيام بذلك:
الدافع الأول: إتمام المهمة
يكمن الدافع الأول في أن محمد بن سلمان، ولي ولي عهد السعودية، ومحمد بن زايد، ولي عهد أبو ظبي، يريان في ترامب فرصة سانحة لإتمام ما بُدئ العمل فيه في يونيو / حزيران 2013 عندما أطيح بالرئيس محمد مرسي؛ وذلك أن الثورة المضادة التي انقضت على الحكومات المنتخبة بحرية ونزاهة ليست في أحسن أحوالها، فمصر لم تستقر على الرغم من كل المليارات التي أنفقت عليها، وتشهد ليبيا صراعا وتنافسا على السلطة بين ثلاث حكومات مختلفة، وخليفة حفتر، الرجل الذي تدعمه كل من مصر والإمارات، لا يبدو في عجلة من أمره للزحف تجاه طرابلس. وأما في اليمن، فمازال الحوثيون يسيطرون على العاصمة صنعاء.
كما أن التحالف بين ابن سلمان وابن زايد والسيسي غير مستقر كذلك. من الممكن جدا أن تندلع الخلافات تارة أخرى بين هؤلاء الرجال، وقد حصل ذلك من قبل حينما ثار غضب الناصريين في مصر إثر تنازل النظام فيها للرياض عن بعض الجزر غير المأهولة. كما أن ابن زايد وابن سلمان يدعمان جماعات متخاصمة تتنافس على السيطرة على عدن.
إلا أن التحالف ما بين هؤلاء الثلاثة مستقر بما يكفي لأن يوحدوا في مهمة مشتركة، ألا وهي (إتمام الثورة المضادة) وسحق كل من يخالفهم من الدول العربية الأخرى.
الدافع الثاني: الحصول على تأمين
الحافز الثاني طابعه شخصي؛ فمن خلال شن هجوم على قطر، يهدف هؤلاء ليس فقط إلى إسكات المعارضة الخارجية بل والقوى الداخلية أيضا. في حالة ابن سلمان، يهمه جدا أن يسكت المعارضة داخل العائلة الحاكمة، فهذه خطوة حيوية لابد أن يقوم بها قبل أن يخلع ابن عمه الذي يكبره سنا، محمد بن نايف، من منصبه في ولاية العهد.
من خلال ربط أنفسهم بشكل وثيق بعربة ترامب، يظن ابن سلمان وابن زايد أنهما حصلا على بوليصة تأمين لهما، إلا أن ذلك يتوقف على ما إذا كان ترامب سيتم فترته الرئاسية إلى مدتها. لا يرى كثيرون في واشنطن أن ذلك بات مضمونا، وخاصة إذ ينتظرون الشهادة التي سيدلي بها الأسبوع القادم المدير السابق لمكتب المباحث الفيدرالي (إف بي آي)، جيمز كومي، أمام لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ، ناهيك عن أولئك الذين ينتظرون ليروا إلى أي مدى سيبقى السيناتور الجمهوري الطامح بول رايان وفيا ومواليا.
كما أن تركيا تبقى موجودة قوة إقليمية منافسة، وذلك على الرغم من أنها لعدة ساعات يوم الخامس عشر من يوليو / تموز من العام الماضي، بدت كما لو أنها تلاشت. الملاحظ أن وسائل الإعلام السعودية والإماراتية التي استهدفت قطر هذا العام، هي نفسها التي عبرت عن سرورها وبهجتها حينما بدا كما لو أن الانقلاب العسكري قد تمكن من الإطاحة بأردوغان.
إذن يمكن منطقيا افتراض أن ذلك هو محفزهم للرغبة في رؤية أمير قطر يطاح به ويخلع، فهو الرجل الذي مول الثورات الشعبية التي ماتزال السعودية والإمارات تشن حربا شعواء عليها.
الدافع الثالث: عملية الاختفاء
يذهب الدافع الثالث من الهجوم على قطر إلى أبعد من ذلك، فقد يرغبون فعليا في رؤية قطر نفسها تختفي كدولة مستقلة. في هذا القرن الذي نعيش فيه، يبدو ذلك جنونيا، بل هو فعلا كذلك؛ فقطر هي مقر القاعدة المتقدمة للقيادة المركزية للولايات المتحدة الأمريكية، ولعل هذا يفسر لماذا تسعى الإمارات العربية المتحدة بكل جد في واشنطن لإقناع الولايات المتحدة بنقل قاعدتها من قطر.
إلا أن الفكرة من وراء هذه الحملة قد لا يكون لها أدنى علاقة بالأحداث التي تجري في هذا القرن، ففي سلسلة من التغريدات الصادرة عن مدونين مقربين من السلطات في الرياض، هناك محاولة لنبش أحداث جرت قبل ما يزيد عن مائة عام، ومن تلك الأحداث التي يجري نبشها دور البريطانيين في اختيار عائلة آل ثاني ليكونوا حكاما لهذا الجزء من شبه جزيرة العرب.
ودون أن يقصدوا السخرية والتهكم، تجدهم يعزون مشاكل قطر الحالية إلى الاتفاقية التي أبرمها محمد آل ثاني مع البريطانيين في عام 1868، والتي مهدت الطريق أمام العائلة لتفرض سلطتها على القبائل الأخرى.
أما صحيفة الاقتصادية السعودية فغردت قائلة: “تقليد انتقال الحكم في إمارة الانقلابات للابن المفضل بدلا من البكر، يجعل الأسرة الحاكمة القطرية عرضة للانشقاقات”. ثم قالت في تغريدة أخرى: “40% من عوائد النفط توزع على أسرة آل ثاني، ولم تكن القبائل قادرة على مواجهة الحكم المدعوم من بريطانيا”.
التواريخ والكيد المرتد
لا شك أن اللجوء إلى نبش هذا الكلام يعتبر أمرا في غاية الخطورة لمن يعي ذلك من أعضاء العائلة الحاكمة السعودية، فمثلا، أين سيكون آل سعود لولا موافقة الامبراطورية البريطانية وإقرارها لهم؟ ففي الدور الذي يعلو المكان الذي أدى فيه ترامب رقصة السيف داخل متحف الملك عبد العزيز، يوجد معرض للصور تظهر فيه بشكل لافت وبارز صور لامرأة بريطانية برفقة الملك المؤسس نفسه.
هذه المرأة اسمها غيرترود بيل، وهي مختصة في علم الحفريات ومستكشفة، وأعظم امرأة متسلقة للجبال في زمنها. كانت مسؤولة سياسية موهوبة في حكومة الامبراطورية البريطانية، وأدت دورا رئيسيا في تأسيس دولة ما بين النهرين، التي أصبحت فيما بعد تعرف باسم العراق، كما أدت دورا مهما كذلك في اختيار الزعماء القبليين في الجزيرة العربية، الذين حازوا من بعد على دعم بريطانيا.
سافرت غيرترود بيل إلى حائل، مقر قبيلة الرشيد المنافسة، وكانت على اطلاع وصلة بالهاشميين في غرب الجزيرة العربية، وهي التي خلصت (وأوصت للسلطات البريطانية) إلى أن ابن سعود، الذي كان في الثانية والأربعين من عمره، هو الرهان الأفضل. وهكذا وصفته:
“من بين الرجال الذين نشأوا على امتطاء صهوة الجمل، يقال إنه لا ينافس كفارس لا يجد التعب إليه سبيلا، يتمتع بجرأة فائقة كزعيم لقوات غير نظامية، يجمع إلى جانب خصاله كجندي، مهارات إدارة الدولة، التي يقدر قيمتها رجال القبائل. فأن تكون “رجل دولة” ربما كانت آخر كلمات الإشادة.”
فعلا إنها إشادة. ولكن هذا هو بالضبط ما يحمله آل سعود في أثقالهم .
أما فيما يتعلق بتوزيع الثروة النفطية، فليس حال المملكة العربية السعودية بالمقارنة أفضل؛ فقطر أغنى البلدان في العالم من حيث نصيب الفرد المواطن الواحد، وقيمة ذلك هي ثلاثة أضعاف ما هي عليه في المملكة العربية السعودية. وفي قطر يوجد لديهم ما يمكن أن يوصف بأنه التوظيف التام مقابل بطالة رسمية في المملكة العربية السعودية تصل نسبتها إلى 12 بالمائة، بينما التقديرات غير الرسمية ربما وصلت إلى 25 بالمائة.
أما عن انتقال السلطة من الأب إلى الابن المفضل، فمن المعروف أن محمد بن سلمان ليس الابن البكر للملك سلمان، وإنما هو، وبكل وضوح، الابن المفضل، وبهذا نجد أن كل التهم التي وجهت للجار تعود مثل الكيد المرتد لتكشف أسوأ الممارسات داخل بيت آل سعود.
مملكة ذات وجهين
ولم تتمكن المملكة العربية السعودية من التغلب على إدمانها على النساء الأجنبيات؛ إذا كان الملك عبد العزيز قد احتاج إلى أن تشيد به غيرترود بيل، فيبدو أن حفيده احتاج إلى إشادة امرأة أجنبية أخرى هي إيفانكا ترامب.
حصلت جريدة الرياض السعودية، وهي إحدى أدوات ابن سلمان في حربه الإعلامية الحالية، على مقابلة حصرية مع إيفانكا، وكان جل همهم في هذه المقابلة أن يوجهوا إليها سؤالا رئيسيا واحدا: ما هو رأيها في ابن سلمان؟
وصفت إيفانيكا ولي ولي العهد بأنه “شخصية محفزة ومؤثرة في الشباب السعودي والعربي والمسلم؛ لما يتمتع به من صفات قيادية وطموح وحبه لوطنه وشعبه، مبيّنة أنّه صاحب حضور فعّال”.
بالطبع لا ابن سلمان ولا إيفانكا يتسمان بنفس قيمة ومواصفات أسلافهما عبد العزيز وغيرترود بيل، إلا أن المشترك بين الحالتين، رغم أن قرنا من الزمان يفصلهما بعضهما عن بعض، هو حاجة الحاكم إلى الحصول على موافقة خارجية.
ومع ذلك، لا ينطبق ذلك على النساء بشكل عام، وخاصة على النساء السعوديات، وقد لاحظ الجميع كيف أن إيفانكا كانت تتصدر المجلس، بينما مكثت النساء السعوديات في الظل.
في الواقع لم يتغير شيء. إذا كان التعامل مع النساء في المملكة محرما، كان ينبغي أن يكون كذلك مع بيل وإيفانكا. وإذا كان الحديث معهما حلالا، فلماذا لا يسمح للنساء السعوديات بالوجود على قدم المساواة في مثل هذه الاجتماعات؟ تارة أخرى، هذه المملكة ذات وجهين، أحدهما لمقابلة الجمهور الغربي والآخر لمقابلة الجمهور المحلي.
مازال ابن سلمان وابن زايد محشورين في الحقبة الاستعمارية؛ فهما زعيمان قبليان، يدفعان مقابل الحماية، وفي سبيل ذلك يبددان ما في المنطقة من موارد. باستطاعتهما المكر والتآمر، وبإمكانهما السعي لإسقاط هذا وخلع ذاك، ولكن ليس بإمكانهما الحكم وليس بإمكانهما جلب الاستقرار؛ إذ ليس لديهما رؤية للمنطقة، فهما لا يريان بعينيهما سوى نفسيهما، وهذا ما يجعلني أشعر بالتفاؤل أنه من تحت ركام هذه الفوضى التي يثيرونها، ستنشأ في نهاية المطاف حالة جديدة مستقلة وعصرية في المنطقة العربية .