العمل مستمر بكل جدية لإبرام صفقة القرن من خلال التقسيط غير المريح!
(١)
كشف تحقيق أجراه موقع «مكور ريشون» الإسرائيلى عن توجه خليجى واسع النطاق لتطبيع العلاقات مع دولة الاحتلال، من خلال عدد من النشاطات التطبيعية السرية، التى ينفذها أمراء وأميرات ورجال أعمال خليجيون فى الأراضى الفلسطينية المحتلة منذ عام ١٩٤٨. وبين التحقيق أن عشرات الخليجيين من الأسر الحاكمة ورجال الأعمال ينظمون رحلات إلى إسرائيل فى ظاهرها سياحية علاجية، لكنها فى باطنها خطط لمشاريع استثمارية بمليارات الدولارات إلى جانب عقد صفقات التبادل التجارى.
مما ذكره الموقع أن هؤلاء الخليجيين يصلون إلى تل أبيب عبر قبرص بحجة العلاج، بالاتفاق مع جهات إسرائيلية متخصصة. وهذه الجهات تتولى نقل الأمراء ورجال الأعمال الخليجيين من مطار بن جوريون إلى المشافى الإسرائيلية ومراكز العلاج. فى هذا الصدد ذكر الموقع أن مستشفى «رمبام» فى مدينة حيفا استقبل أخيرا عبر مطار بن جوريون أميرة خليجية تبلغ من العمر ٥٠ عاما. أجريت لها عملية جراحية وغادرت المشفى بعد التأكد من شفائها، وفى سياق متصل كشف التحقيق عن وجود تسهيلات تمنحها العديد من دول الخليج للشركات الإسرائيلية من أجل جذبها للعمل فى أسواقها، وهو ما يتم من خلال شركات وهمية تابعة للعديد من سلاسل الشركات الأمريكية الناشطة فى الخليج، وأكد التقرير أن الجهات المعنية فى دول الخليج على علم بتفاصيل تلك الشركات، غير أنها تغض الطرف عنها.
هذا التقرير بثته فى ٢٨ مايو الحالى وكالة «قدس» الإخبارية مترجما عن العبرية، ولا جديد فيه من الناحية المعلوماتية، إذ إنه أذاع فى العلن ما يتم تداوله همسا وفى السر بخصوص الاختراق الإسرائيلى لمنطقة الخليج الذى تعددت صوره ومنافذه، وتزايد اللغط حوله خلال السنوات الأخيرة. ومعروف أن وثائق «ويكيليكس» التى أعلنت فى عام ٢٠١٥ كشفت عن عمق العلاقات بين السعودية وإسرائيل، التى توثقت بعد نجاح الثورة الإسلامية فى إيران (عام ١٩٧٩)، وأشارت إلى أن تلك العلاقات تكمن وراء تساهل المملكة فى مسألة مقاطعة إسرائيل، كما أنها كانت حاضرة فى خلفية «مبادرة السلام» التى أعلنتها المملكة وتبنتها القمة العربية فى عام ٢٠٠٢. وقد جرى التشكيك فى صدقية تلك التسريبات حينذاك، مثلما حدث فى أعقاب زيارة رجل المخابرات السعودى اللواء أنور عشقى لإسرائيل فى العام الماضى (٢٠١٦) وقيل وقتذاك إنها شخصية من جانبه ولا تمثل الموقف الرسمى السعودى.
(٢)
حتى إذا كانت تلك مصادفة، أن يظهر تقرير الموقع الإسرائيلى فى أعقاب زيارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب للسعودية وإسرائيل، فإنه يظل للمصادفة دلالتها. ذلك أن الصحف الإسرائيلية أجمعت على أن الزيارة رفعت «منسوب الدفء» فى العلاقات بين إسرائيل وبعض الدول العربية، الخليجية من ناحية ومصر والأردن من ناحية ثانية، وإذا تذكرت أن مصطلح العلاقات «الدافئة» مع إسرائيل ورد فى بعض التصيرحات الرسمية العربية، فذلك يعنى أن حالة الجاهزية للدفء ــ وهو وصف دبلوماسى للتطبيع ــ كانت قائمة فى أهم العواصم العربية، ولم يكن الخليج وحده المتورط فيها.
صحيفة هاآرتس ذكرت فى عددها الصادر يوم ٢٥ مايو أن رؤية الرئيس ترامب التى نقلها إلى القادة الذين التقاهم فى الرياض تقوم على أن «التقريب» بين إسرائيل والدول العربية مدخل ضرورى للتوصل إلى السلام فى المنطقة. وفى اليوم ذاته ذكرت صحيفة «يسرائيل هيوم» أنه خلال اللقاء الذى تم فى «بيت لحم» أبلغ الرئيس الأمريكى أبومازن بأن جوهر مبادرته هو وضع خطة إقليمية شاملة تقوم على «التفاعل» بين إسرائيل وجيرانها العرب فى إطار مبادرة السلام العربية أولا، بما يفتح الطريق إلى التسوية المرجوة للقضية الفلسطينية، وفى هذا اللقاء وفى غيره ظل الرئيس الأمريكى يردد أن الرياض متحمسة لذلك «التفاعل» الذى يدعو إليه وكذلك مصر والأردن.
تعليقا على فكرة التفاعل على أساس المبادرة العربية، قال لى قيادى فلسطينى إن الرئيس محمود عباس أعرب عن موافقته على الالتزام بمبادرة السلام التى تدعو إلى البدء بالانسحاب الكامل من الأراضى العربية المحتلة، مقابل التطبيع الكامل مع الدول العربية. وقال إنه يوافق على المبادرة من الألف إلى الياء، لكن نتنياهو يريد أن يقلب الآية بحيث يبدأ بالياء (أى التطبيع أولا) ليصل إلى الألف فى زمن لا يعلمه إلا الله!
(٣)
حين ذكرت صحيفة «وول ستريت جورنال» قبل أسبوع أن الحكام العرب تنازلوا عن الشروط التى تضمنتها المبادرة العربية فإن ذلك لم يكن خبرا مفاجئا، إذ بات معلوما أن موضوع الانسحاب من الأراضى المحتلة لم يعد واردا فى الطروحات الجارية، وكذلك مسألة وقف الاستيطان، وإن قيل إن المطروح لا يتجاوز حدود تجميد الاستيطان بصفة مؤقتة فى المستوطنات النائية فقط، التى تقع خارج التجمعات الاستيطانية الكبرى. وهو يعنى أن المستوطنات الأخيرة التى تستوعب أكثر من ٨٠٪ من المستوطنين، ستظل لها حريتها المطلقة فى التمدد والتوسع.
الخلاصة أنه حتى المبادرة العربية فرغت من مضمونها، وتحولت إلى مجرد غطاء لتسويغ التطبيع والتنازل عن أهم الاستحقاقات الفلسطينية، بالتالى فإن البند الوحيد الذى سيتم تفعيله فيها وأخذه على محمل الجد هو استعداد الدول العربية للتطبيع الكامل مع إسرائيل. وهذه الفكرة أصبحت من مسلمات الحوار الدائر الآن حول التسوية، عبر عن ذلك السفير الأمريكى الجديد لدى إسرائيل (اليهودى الليكودى) ديفيد فريدمان، الذى احتفت الدوائر الإسرائيلية بتصريحه الذى قال فيه إن إسرائيل لن تكون مطالبة بأن تقدم أى مقابل للفلسطينيين. وهو ذات المعنى الذى عبر عنه الرئيس ترامب حين قال أن الإدارة الأمريكية لن تمارس أى ضغط على إسرائيل فى المشاورات الدائرة حول المستقبل. وهى الرسالة التى أنعشت آمال اليمين الإسرائيلى ودفعت رموزه إلى رفع سقف التوقعات والإصرار على استمرار خطوات التهويد والتمكين والتمادى فى التوسع الاستيطانى، بل إن تلك الأجواء شجعت نائب رئيس البرلمان بتسللا سمورطيش على الدعوة إلى طرد الفلسطينيين والاستيلاء على أراضيهم وذبح نسائهم وأطفالهم إعمالا لفتوى الحاخام موشيه بن ميمون الذى عاش فى القرن الثالث عشر (هاآرتس ١٦/٥).
(٤)
حين سئلت عن مصير «صفقة القرن» التى ذاع خبرها طوال الأسابيع الماضية، وتوقع كثيرون الإعلان عنها خلال زيارة الرئيس ترامب للرياض، كان ردى أننا فى مرحلة «التسخين» التى تسبق الإعلان الرسمى. ذلك أن التمهيد لها يتم على مستويين، الأول الاطمئنان إلى موافقة القيادات العربية على المبادرة بعد التعديل، بما يستجيب للطلبات الإسرائيلية. والثانى الترويج لفكرة التحالف السنى الإسرائيلى الذى يقام تحت الرعاية الأمريكية لمواجهة خطر الإرهاب، الذى يعد التمدد الإيرانى من تجلياته. (نشر أن الأطراف المتحالفة ستقيم «غرفة طوارئ» بمشاركة إسرائيلية لذلك الغرض).
صحيح أن بعض دول الخليج استبقت ومارست التطبيع الحذر كما أسلفنا، إلا أن ذلك يدخل فى إطار التمهيد للصفقة الكبرى والتسخين الذى يسبق الدخول فى طور التطبيع الرسمى والعلنى، الذى يشمل مد خطوط الطيران وتوسيع نطاق التبادل التجارى والثقافى، وتبادل الفرق الفنية والرياضية…إلخ.
إن شئت الدقة فقل إن الرئيس الأمريكى جاء إلى المنطقة وفى ذهنه صفقتان وليس صفقة واحدة، الأولى تم التوقيع عليها وجرى الدفع فيها فورا، وهى التى تعلقت بعقود التسليح التى تجاوزت قيمتها أكثر من مائة مليار دولار. وقد تباهى بها عند عودته إلى واشنطن قائلا إن هذه المليارات تعنى تشغيل المصانع كما تعنى توفير آلاف الوظائف للأمريكيين. كما أنه أبرم تعاقدات أخرى تجاوزت ٣٠٠ مليار دولار ستنفذ فى المستقبل، وفى الزيارة ذاتها حصلت ٢٣ شركة أمريكية كبرى على تصاريح عمل للعمل بالسعودية.
الصفقة الثانية ــ الكبرى ــ ستتم بالتقسيط غير المريح، (بالمفرق كما يقول إخواننا العرب) وهى التى تستهدف الدمج التدريجى لإسرائيل مع العالم العربى وإغلاق ملف القضية الفلسطينية، والذريعة المعلنة لذلك هى مكافحة إرهاب داعش والقاعدة وصد الخطر الإيرانى.
رغم أن مستقبل الصفقة الثانية مرهون باستمرار الإدارة الأمريكية الحالية (الذى ليس مقطوعا به)، إلا أن إتمامها مرهون أيضا ببقاء الأوضاع العربية كما هى عليه. ذلك أن التنازلات التى تمت حتى الآن يصعب التنبؤ بصداها لدى الشعب الفلسطينى، فضلا عن أن أغلب دول المشرق العربى وكل المنطقة المغاربية ليست طرفا فيها. وثمة قرائن عدة دالة على أن منطقة الخليج هى المحرك لها. وذلك وضع لا تعرف تداعياته ويصعب التنبؤ بنتائجه. ولأن الوضع كذلك، فلسنا نبالغ إذا قلنا إن العالم العربى مقبل على مرحلة خطرة يكتنفها الغموض ومفتوحة على كل الاحتمالات.