فرقٌ شاسعٌ بين مفهوم “سيادة القانون” الموجود في كتب القانون ومصطلح سيادة القانون الذي يردّده المسؤولون المصريون طوال الوقت في أجهزة الإعلام، فسيادة القانون “في الكتب” تعني أن القانون هو السيد على الجميع، الحاكم والمحكوم، ضابط الشرطة والمواطن، من يقوم بتطبيق القانون ومن يتم تطبيق القانون عليه.
أما مصطلح سيادة القانون الذي تردّده السلطة في مصر، أو عبارة “دولة القانون” التي يتشدّقون بها ليل نهار، بعد اعتقال أحد المعارضين، أو إغلاق إحدى المكتبات الثقافية، أو المراكز الحقوقية، فهو يعني أن من يطبقون القانون هم “أسياد البلد”، يطبقونه كيفما يشاؤون، وفي الوقت الذي يريدون، إنها تعني لهم أنهم أسياد البلد، وهم فوق القانون، طالما هم من يطبقونه، وبأشد المواد وأقسى التعليمات تارة، ويطبقونه بأكثر مواد الرأفة والرحمة، أو يتلكأون في تطبيقه تارة أخرى، فهناك جهات في مصر تراقب كل شيء، ترصد أدقّ تفاصيل المواطنين، وتسجل أدق الأسرار الشخصية لتستخدمها عند الحاجة، وتفتخر باستطاعتها إبطال المؤامرات قبل التفكير فيها، لذلك هي تطبق القانون وغير القانون بمنتهى الحزم والقسوة ضد أيِّ معارضٍ، أو من لديه رأي مختلف، في حين أن الجهات نفسها تكون أكثر رقةً ورأفةً في التعامل مع رموز نظام حسني مبارك الذين يتم اتهامهم أو إدانتهم بالفساد أو نهب المال العام أو القتل أو التعذيب.
حتى تاريخ كتابة هذه السطور، هناك أكثر من رواية عن اختفاء اللواء حبيب العادلي وزير الداخلية في آخر سنوات سنوات حكم حسني مبارك، وهو السفاح الذي كان يحكم البلد بالحديد والنار سنوات طويلة، وهو الذي تمت محاكمته وحبسه بعد ثورة يناير 2011 بتهم عديدة، منها المسؤولية عن تعذيب محتجزين حتى الموت، أو عن قتل متظاهرين في أثناء الثورة، أو عن إجبار جنود الشرطة على العمل بالسخرة لحسابه الخاص، أو بتهمة الاستيلاء على الملايين من أموال الدولة، وعن التربح بشكل غير مشروع. وقد تمت إدانته في كل التهم السابقة، وتم الحكم عليه بالسجن المؤبد لقتل المتظاهرين، ثم السجن مدداً أخرى في قضايا الفساد. ولكن في عهد السيسي، تمت إعادة محاكمته، وتمت تبرئته في الدرجة الثانية، بسبب اختفاء الأدلة “فجأة” أو اختفاء شهود الإثبات “فجأة” أو تغيير شهود الإثبات أقوالهم مرة أخرى.
ولكن، هناك قضية أخرى لم يستطِع الإفلات منها، الاستيلاء على حوالى مائتي مليون جنيه مصري، في فترة تولّيه وزارة الداخلية قبل عام 2011، وهي القضية التي حُكم عليه فيها بالسجن سبعة أعوام. ولكن، وكما كان متوقعا، لم يتم القبض على اللواء حبيب العادلي، وانتشرت الشائعات حول تسهيل السلطات هروبه، وبرّرت وزارة الداخلية عدم القبض عليه، من أجل تنفيذ الحكم بأنه مريض للغاية، وأن من حقه أن يمكث تحت قيد الإقامة الجبرية، حتى يتم البت في طلبه أمام المحكمة وقف التنفيذ للحكم الصادر.
وفجأة طالعتنا أخبار أخرى أن وزارة الداخلية حاولت القبض على وزير الداخلية السابق، بعد إلحاح النيابة العامة، ولكن قوة تنفيذ الأحكام “فوجئت” بعدم وجوده في مسكنه (!). ولذلك، قدّمت وزارة الداخلية بلاغاً رسمياً للنيابة العامة، يفيد بهروب اللواء حبيب العادلي من تنفيذ الحكم الخاص بسجنه.
ليس الموقف عجيباً، بل كان متوقعا، فاللواء حبيب العادلي، على الرغم من كل جرائمه، يعتبر بطلا قوميا لكثيرين من قيادات وزارة الداخلية وكوادرها، هو الأب والمعلم، فكيف تطاوعهم قلوبهم الرقيقة على تحمّل مشهد حبسه خلف القضبان، بل ربما هناك من يتعجب إن حاول محاورة الناس في الشوارع المصرية ليسمع عبارات مثل “وما المشكلة في سرقة مائتي مليون جنيه؟ الراجل كان حرامي بس ماسك البلد وضابطها ومانع الفوضى”!
ولكن أيا ما كان سنكتشفه في الأيام المقبلة، هرب العادلي فعلا، أم يمكث في مصحةٍ بذريعة المرض، لنا الحق أن نطالب بالعدل، وأن نتساءل: لماذا يتم التعامل بمنتهى الرأفة مع وزير الداخلية السابق، أو رئيس جمهورية سابق، مدانين بالاستيلاء على أموال الدولة وأموال الشعب، في حين يتم التعامل فيه بمنتهى الغلظة والقسوة مع المسجونين المرضى وكبار السن من المعارضين والمختلفين سياسيا مع النظام.
تتعامل وزارة الداخلية بمنتهى الرأفة مع هذا اللص المجرم، وهو قاتلٌ تمت إدانته بما لا تزيد نسبته عن واحد على الألف من الجرائم الخفية الحقيقية، في حين أنها تتعامل بمنتهى القسوة والغلظة مع قاضٍ جليل، مثل المستشار محمود الخضيري الذي أفنى عمره في خدمة مصر والعدالة. لماذا لا يتم تطبيق قواعد الرأفة مع هذا الشيخ الجليل، ويتم الإفراج الصحي عنه؟ وماذا عن شبابٍ لم يتجاوز الواحد منهم العشرين عاما من عمره، وتم حبسهم احتياطيا لمجرد الاشتباه على خلفية قضايا تظاهر أو قضايا سياسية، ومنهم من خرج من السجن عاجزا لا يستطيع المشي، ومنهم من مات بسبب الإهمال الطبي والتأخر في العلاج، ومنهم آلاف يعانون من تدهور الحالة الصحية، وترفض السلطات مجرد علاجهم بطريقة صحيحة؟
وماذا أيضاً عمّن ماتوا ومن يموتون كل فترة في السجون المصرية (سجن العقرب خصوصا) بسبب الإهمال الطبي وسوء الرعاية الصحية؟ وماذا عن التشدّد والتعسف في تطبيق العقوبات التكميلية، مثل “المراقبة” التي يتم استخدامها بهدف مزيد من التنكيل والمساومات ومحاولات الإذلال؟
ولكن، للأسف الشديد، كل ما سبق طبيعي في وضعنا الحالي، فالثورة مهزومة، ورجال مبارك والعادلي هم من يحكمون الآن، هم من كانوا يحكمون في عهد المجلس العسكري، وفي عهد محمد مرسي، فلعلنا نتذكّر التمنع عن أداء العمل في حفظ الأمن ومخطط وزارة الداخلية لنشر الفوضى والفراغ الأمني المتعمد، بغرض أن يطلبهم الناس للعودة مرة أخرى، مع التغاضي عن التجاوزات. ولعلنا نتذكّر حماية المجلس العسكري رموز نظام مبارك، والتلكؤ في تنفيذ مطالب الحساب والعدالة الانتقالية، حتى هرب منهم من هرب، وبقي منهم من بقى مع إتلاف أي دليل يدينه. ولعلنا نتذكّر ما فعله الرئيس السابق، محمد مرسي، عندما “طبطب” على وزارة الداخلية، وقام بتدليلهم والتغاضي عن استمرار الانتهاكات والتعذيب، بحجة عدم إغضابهم، وبحجة دفعهم إلى أداء واجبهم، حتى قاموا بالانقلاب عليه هو شخصيا.
للأسف، ما يحدث الآن نتيجة طبيعية لأخطائنا وتخبطنا في فترة ما بعد الثورة.