لا تنتظروا خيرا من الزيارة التى يعتزم الرئيس الأمريكى القيام بها للسعودية، ذلك أن الصفقة التى يريد أن يعقدها لا تخرج عن كونها صفعة لنا جميعا.
(١)
فى اليوم التالى للقاء الرئيس دونالد ترامب مع أبومازن فى واشنطن (الخميس ٤ مايو) كان بين أبرز التعليقات فى الصحف والمواقع الإسرائيلية ما يلى:
< أورلى أوزلاى ــ يديعوت أحرنوت: ترامب تبنى مواقف إسرائيل. إذ إنه طالب أبومازن بالتوقف عن دفع رواتب عائلات «المخربين» الفلسطينيين المحبوسين فى إسرائيل. علاوة على أنه طالبه بالتركيز على مكافحة «الإرهاب». فى الوقت ذاته فإنه لم يعرض عليه أى خطة سلام، ولم يتحدث عن حل الدولتين، ولم يتطرق إلى وقف بناء المستوطنات.
< حمى شليف ــ هاآرتس: أثبت اللقاء مع ترامب أن السلاح الجديد وغير السرى لمحمود عباس والقيادة الفلسطينية هو التملق. حتى إذا وقف ترامب أمام المرآة فى البيت الأبيض وسأل: أيتها المرآة من الأكثر نجاحا فى المدينة؟ فسوف يفاجأ بأبومازن وقد ظهر أمامه قائلا: أنت يا سيدى الرئيس.. أنت وحدك.
< آفى سيخاروف ــ هاآرتس: حين حرص ترامب على امتداح أبومازن فقد كان ذلك نابعا من إدراكه أهمية الدور الذى تقوم به السلطة الفلسطينية فى الدفاع عن أمن إسرائيل، ذلك أن الرئيس الأمريكى يعى جيدا ما يعرفه قادة الأمن الإسرائيلى من أن السلطة الفلسطينية تمثل مركبا رئيسيا من المركبات التى تضمن أمن إسرائيل، على الرغم من حملة التحريض التى يشنها اليمين الإسرائيلى ضد عباس. لذلك فإنه باستثناء الكلمات الدافئة التى أغدقها على أبومازن، فإن الرئيس الأمريكى لم يمنح رئيس السلطة الفلسطينية أى إنجاز يمكن أن يلوح به بفخر أمام شعبه.
< أليؤر ليفى ــ يديعوت أحرنوت: خلال المؤتمر الصحفى المشترك مع عباس، حرص ترامب على عدم تجاوز تصور حكومة اليمين المتطرف فى إسرائيل لحل الصراع. حيث لم تصدر عنه أية إشارة تعكس التزاما بحل الدولتين أو إقامة دولة فلسطينية.
< عساف جيبور ــ معاريف: حقق عباس الإنجاز الوحيد الذى يتطلع إليه فى الوقت الراهن، الذى يتمثل فى ضمان شرعيته. ذلك أنه خشى أن تتآمر عليه الأنظمة العربية، بحيث تفرض عليه غريمه محمد دحلان. وجاء ترامب ليسبغ عليه الشرعية التى عززت موقفه، وذلك إنجاز كبير فى نظره.
(٢)
أثار انتباهى العنوان الرئيسى لصحيفة «الحياة» اللندنية التى صدرت فى اليوم نفسه (الخميس ٤/٥)، الذى كان كالتالى: ترامب يعد عباس بـ«مظلة عربية»، إذ استغربت أن يأتى هذا الكلام على لسان الرئيس الأمريكى الذى أراد أن يطمئن ضيفه أبومازن إلى أنه هو من سيتولى توفير المظلة العربية له، وليس العكس. إذ يفترض أن أبومازن حين يذهب إلى واشنطن فإنه سيكون مدعوما مسبقا بموقف عربى يسانده فيما يخص «قضية العرب المركزية». أما أن يذهب عارى الظهر، بحيث يكون بحاجة إلى مساندة عربية يوفرها له الرئيس الأمريكى، فتلك من عجائب الزمان التى تشهد بمدى العبثية التى بلغها المشهد العربى. وإذ لا أتصور أن الرئيس ترامب يطلق الكلام على عواهنه، لذلك فإننى أرجح أن لديه شيئا بالفعل بهذا الخصوص تلقاه من بعض الزعماء العرب الذين لقيهم. وهو ما يطرح بشدة السؤال التالى: ما هو «الشىء» الذى سيقدم عليه أبومازن، ويحتاج فيه إلى مظلة عربية يتولى الرئيس الأمريكى توفيرها؟
لاحظت أيضا أن معظم الصحف العربية التى وقعت عليها أبرزت دون تعليق مطالبة ترامب للفلسطينيين بأن يجمعوا على إدانة الدعوات إلى العنف والإرهاب. كما أنه حثهم على تبنى صوت واحد ضد التحريض والحث على الكراهية وتعليم الأطفال حب الحياة وإدانة كل من يستهدف الأبرياء. فى الوقت ذاته تناقلت الصحف العربية أيضا عن ترامب قوله: «علينا الاستمرار فى بناء شراكة مع قوات الأمن الفلسطينية لهزيمة الإرهاب».
عند التدقيق فى كلام الرئيس الأمريكى يلاحظ المرء أن انتقاده للإرهاب موجه إلى الفلسطينيين وحدهم وأنه فى دعوته إلى هزيمة الإرهاب فإنه راهن على الدور الذى تقوم به قوات الأمن الفلسطينية التى تنهض بمهمة ملاحقة المقاومين وحماية أمن إسرائيل من مظاهر الغضب الفلسطينى.
هكذا ما عاد هناك شك فى أن الرئيس الأمريكى فى المؤتمر الصحفى فضلا عن لقائه مع أبومازن كان يتكلم طول الوقت بعقل ولسان نتنياهو. ذلك أنه فى خطابه ظل يتحدث عما يجب أن يفعله الفلسطينيون لصالح أمن إسرائيل. ولم يشر بكلمة إلى شىء مما ينبغى أن تفعله إسرائيل للاتفاق مع الفلسطينيين. ناهيك عن أنه لم يشر بكلمة إلى أى بند من البنود المعلقة سواء فيما خص المستوطنات أو حتى حل الدولتين.
(٣)
ما سبق يثير العديد من الأسئلة حول مضمون «صفقة القرن» الذى أطلق أثناء زيارة الرئيس عبدالفتاح السيسى لواشنطن ولقائه بالرئيس الأمريكى (فى بداية إبريل الماضى) ــ واعتبرت صحيفة «يديعوت أحرنوت» آنذاك أن المقصود بالصفقة عقد قمة سلام لطى صفحة الصراع فى اجتماع يعقد بالولايات المتحدة خلال الصيف المقبل تشارك فيها مع إسرائيل مصر والأردن ودول الخليج (السعودية ودولة الإمارات). ونوهت الصحيفة إلى أن الرئيس المصرى قام بزيارته لواشنطن بعد ثلاثة أيام من عقد القمة العربية بالأردن. التى شارك فيها جيسون جرينيلاد مبعوث ترامب لعملية السلام (المعلومة لم تنشر فى صحفنا) وكانت تلك إشارة إلى أن الرئيس السيسى حين التقى ترامب فإنه كان يحمل تصورا أو أفكارا بخصوص حلحلة القضية الفلسطينية، إلى جانب الطلبات المصرية بطبيعة الحال.
أخيرا يوم الخميس الماضى (٤/٥) فوجئنا بتصريحات للرئيس الأمريكى ذكر فيها أنه يفتخر بأن ينقل إلى الملأ إعلانه «التاريخى العظيم» عن أن زيارته الأولى كرئيس للولايات المتحدة ستكون يوم ٢٣ مايو للالتقاء مع زعماء يمثلون العالم الإسلامى (وليس العربى فقط). وقال إن الهدف من الزيارة هو إرساء دعائم تحالف جديد لمحاربة الإرهاب (الذى تمثله داعش وإيران). وذلك لبناء مستقبل مشرق وعادل للشباب المسلم فى بلادهم.
فكرة التحالف الجديد ليست جديدة تماما، فقد سبق أن ترددت فى وسائل الإعلام بصياغات مختلفة، كان أشهرها مصطلح «الحل الإقليمى» الذى سبق أن دعا إليه وسوقه رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو، وهى صيغة خبيثة للتطبيع مع العالم العربى أولا ثم بعد ذلك الضغط على الفلسطينيين والتوصل إلى حل للصراع مع إسرائىل. وكأن الجهد المطلوب ينحصر فى القضية الفلسطينية وليس الاحتلال الإسرائيلى.
ما أعلنه الرئيس الأمريكى تحرك فى إطار الفكرة ذاتها وإن أطلق عليها عنوانا آخر. فهو يتحدث عن تحالف فى مواجهة إيران وداعش (تشارك فيه إسرائيل بطبيعة الحال) دون إشارة صريحة إلى فكرة الحل الإقليمى التى أشار إليها نتنياهو. ومعروف أن صيغة الحلف الإسلامى لها تاريخ فى العالم العربى، تبنتها الولايات المتحدة فى عهد الرئيس الأسبق أيزنهاور (قبل أكثر من نصف قرن) لمواجهة الشيوعية. وكان «حلف بغداد» امتدادا لها، وأخيرا طرحت فكرة الحلف فى عام ٢٠١٦ حين دعت إليه السعودية لمواجهة الحوثيين فى اليمن. أما ما هو مطروح فى الوقت الراهن فهو يقوم على محاولة حشد الدول السُّنيَّة لمواجهة التمدد الإيرانى، إضافة إلى مشاركة إسرائيل، بعدما صارت تصنف نفسها ضمن دول الاعتدال فى المنطقة. وهو تصنيف قبلت به بعض الدول العربية.
(٤)
إذا جاز لى أن ألخص المشهد فإننى أقر بأن الوضع الراهن على بؤسه أفضل بكثير مما هو قادم. إذ لا أستطيع أن أتجاهل عدة حقائق، أولها أن الرئيس الأمريكى يتحدث باسم نتنياهو واليمين الإسرائيلى. ومن ثم فإن ما يشغله حقا هو كيف يقنع العالم العربى بإغلاق ملف القضية وبالتسليم بالطلبات الإسرائيلية (سمّه الانبطاح إن شئت). فى الوقت ذاته فإن السلطة الفلسطينية التى هى فى أضعف حالاتها باتت تراهن على موقف الإدارة الأمريكية وتتمنى رضاها بمختلف السبل. ثم إن العالم العربى أصبح يعانى من درجة غير مسبوقة من الوهن والانفراط، حتى سارت بعض أهم دوله على درب التطبيع. اجتماع هذه العوامل إذا كان يشكل فرصة تاريخية تمكن إسرائيل من فرض شروطها، فضلا عن أنها تشجع نتنياهو وقوى اليمين الأكثر تطرفا على مزيد من التصلب وتصعيد المواقف والطلبات، فبأى معيار إذن يعد ما نحن مقبلون عليه «صفقة القرن»؟ ــ وإذا كان للرئيس الأمريكى أن يعتبر رحلته إلى السعودية «حدثا تاريخيا عظيما» لأنه سيلتقى مع بعض قادة العالم الإسلامى ووضع أساس الحلف الجديد الذى يمهد لعقد «صفقة القرن»، فبأى عقل أو منطق نصدق الكلام ونردد تلك العبارات. وإذا ما فعلها الرئيس ترامب حقا، فله أن يتباهى بما أنجزه ويطلق عليه ما يشاء من أوصاف، لكن «صفقة القرن» التى يريد أن يعقدها ستصبح «صفعة القرن» للعرب والمسلمين. وليس فى ذلك مبالغة، لأن ما نحن مقدمون عليه يملؤنا شعورا بالخوف والفزع، وليس الاطمئنان أو الثقة. لذلك فإن لهفة الزعماء العرب على لقائه فى واشنطن والإطراء المبالغ فيه الذى جاء على ألسنتهم، ذلك كله يعد نفاقا وعبثا لا طائل من ورائه، فضلا عن أنه من علامات الضعف والاستخذاء.
قرأت تصريحا للدكتور على الجرباوى أستاذ العلوم السياسية بجامعة بيرزيت قال فيه إن ترامب من أكثر الرؤساء الأمريكيين انحيازا لإسرائيل منذ إنشائها قبل ٧٠ عاما. كما أن طاقمه لا يخفى ذلك الانحياز. ولديه صهر يهودى وأحفاد يهود. كما أن إسرائيل هى حليفه الاستراتيجى وليس نحن. لذلك من المستبعد أن يقوم بأى ضغط على إسرائيل، ومن المرجح أن يكثف من ضغوطه على الفلسطينيين دون غيرهم.
هذا الذى قال به الدكتور الجرباوى صار معلوما من السياسة بالضرورة، بل صار بديهية لدى المواطن العربى العادى. لذلك فليس مفهوما تهليل بعض الأوساط العربية للرئيس الأمريكى، والحفاوة بالحدث التاريخى العظيم الذى هو مقبل عليه، وصفعة القرن التى يدعى أنه بصدد عقدها.
ماذا نقول فى أناس ذهبت عقولهم وخارت قواهم وعميت أبصارهم حتى صاروا يرون الصفعة صفقة؟!