لطالما تصدت حماس للمشاريع الصهيونية التي تحاك ضد فلسطين، عسكريا؛ بتصديها لبلطجة جيش الاحتلال الصهيوني في بضعة حروب على غزة خلال السنوات العشر الأخيرة، وسياسيا؛ بوقوف حماس ضد مشاريع التقسيم، ورفض إقامة دولة في غزة.
وها هي حماس الآن تتصدى لمشروع الوطن البديل، الذي بدأت ترشح أخباره من داخل الحكومة الصهيونية ذاتها، وهو المشروع الذي وصفه السيسي بأنه #صفقة_القرن!
***
1- وثيقة غير جديدة.. فما الجديد؟؟
أكاد لا أبالغ إذا قلت أن #وثيقة_حماس الجديدة غير جديدة على الإطلاق، فبنودها الـ 42 أكدت على تعريف حركة حماس كحركة تحرر ومقاومة وطنية فلسطينية، وأشارت لبعدها العربي والإسلامي، وأنها تفهم الإسلام بشموله لجوانب الحياة كافة، وصلاحيته لكل زمان ومكان (وهو جوهر فكر #الإخوان المسلمين)، كما أكدت الوثيقة على موقف الحركة الثابت الرافض لكل مشاريع التقسيم بدء برفضها لوعد بلفور، مرورا برفضها لقرار التقسيم الشهير في الأربعينات، وانتهاء برفضها لتفاقية #أوسلوا وكل ما نتج عنها، ولا سيما التنسيق (التعاون) الأمني مع الصهاينة.
حتى قضية القبول (مرحليا) بدولة فلسطينية ضمن حدود 67 سبق وأن اعترفت به #حماس ضمنا عام 2006 بعد مشاركتها في الانتخابات البرلمانية في الضفة والقطاع دون باقي أراضي الـ 488 التي تحتلها إسرائيل!
إلا أن توقيت الوثيقة ودوافع إصدارها جعل الكثيرين يتساءلون عن دوافع الحركة لإصدار هذه الوثيقة، وسط تكهنات غير واقعية من بعض المزايدين والمشككين الراغبين في رمي السهام المسمومة على آخر الحركات المقاومة لكيان الاحتلال الصهيوني، وتخوفات من بعض المخلصين القلقين على موقف الحركة وتوجهاتها!
***
2- حماس ترفض كلامن حل الدولة الواحدة وحل الثلاث دول:
وحتى نفهم هذه الوثيقة يجب أن نتناولها في إطارها، وفي الظرف السياسي الذي خرجت فيه. فحركة حماس تتزعم تيار الحركات الفلسطينية الرافضة للتطبيع مع الصهاينة، والرافضة للاعتراف بإسرائيل، والمصممة على تحرير كامل فلسطين من البحر (المتوسط) إلى النهر (الأردن)، مقابل تيار آخر تقوده فتح، يؤمن بضرورة التنسيق الأمني مع الصهاينة، والقبول بحل الدولتين، والاعتراف بحق إسرائيل في الوجود!
في مقابل ذلك بدأ ينشأ تيار ثالث، وهو تيار استيطاني صهيوني يحظى بدعم إقليمي ودولي، ينادي بحلول أخرى لإنهاء الصراع. من هذه الحلول ما يمسى بحل “الدولة الواحدة”، أو ما أسماه السيسي بصفقة القرن، وهو ما يقضي بابتلاع إسرائيل لكامل الضفة الغربية بما فيها القدس، وتعويض الفلسطينيين بقطعة من أرض سيناء (وربما سيناء كلها) لتكون دولة للفلسطينيين بعد ضمها لغزة.
ومن هذه الحلول التي يبتناها بعض رموز هذا التيار هو “حل الثلاث دول”، وهو ما يعني أن تعود الضفة الغربية للسيادة الأردنية، وأن يعود قطاع غزة لمصر، وأن تبقى بينهما دولة إسرائيل، دون قيام أي دولة فلسطينية!
لأجل ذلك كان من المهم أن تؤكد حركة حماس على تمسكها بكامل تراب فلسطين ، ولعل أدق ما قيل في هذه الوثيقة هو ما قاله معلق صهيوني أن حماس كانت تريد قبل الوثيقة تحرير فلسطين “من النهر إلى البحر”، وتريد الآن تحريرها “من البحر إلى النهر!”
لكن حماس، وهي تراقب التصريحات المتواترة من مسؤولين وسياسيين في المنطققة والعالم، بدأت تدرك أن هناك توجها أميركيا للدفع نحو حل الدولة الواحدة، وخاصة مع انتخاب دونالد #ترامب، بدأت تدرك أن أكبر الحجج التي تساق للترويج والتسويق لهذا الحل هو أن حل الدولتين أصلا غير ممكن، وأن أكبر معوقات هذا الحل هو حركة حماس، أكبر حركة مقاومة في فلسطين، إذ أنها على رأس الرافضين لهذا الحل!
ورغم أن حركة حماس ظلت على موقفها الرافض لحل الدولتين، بل وأعادت التأكيد بشكل صريح أكثر من مرة على رفض الاعتراف بكيان الاحتلال الصهيوني، وتمسكها بتحرير كامل #فلسطين، إلا أن إعلانها قبول دولة فلسطينية على حدود 67، قد فوت في نظر الكثيرين الفرصة على من يروجون لحل الدولة الواحدة، انطلاقا من مبدأ أن حل الدوليتن غير ممكن بسبب حماس!
أي أن هدف الوثيقة الأبرز في رأيي هو عرقلة حل الدولة الواحدة، بقبولها مرحليا دولة فلسطينية على حدود 67، مع اعتقادها الجازم أن إسرائيل لن تعطي لا دولة على حدود 67 ولا غيرها، إلا بالقوة، وهو ما أكد عليه خالد مشعل أمس!
***
3- حماس تلعب على التناقضات الدولية!
وهنا يظهر سؤال؛ من كانت تخاطب حماس إذن؟؟ هي لا تخاطب في هذه النقطة تحديدا قواعدها، الراغبون في تحرير كامل فلسطين، ولا تخاطب أغلب الدول العربية التي ترى حماس منظمة إرهابية، بل هي في أغلب الظن تخاطب الساسة التقليديين في الغرب الرافضين لحل الدولة الواحدة، والذي يرونه خطرا على أنفسهم قبل كل شيء!
كنت قد أوضحت سابقا أن هناك تيارين في الغرب، الأول تيار استطياني يريد لإسرائيل أن تبتلع كامل فلسطين وتهدم البيت وتبني الهيكل، مع أفكار أخرى تؤيد تفكيك الاتحاد الأوربي والنيتو، والثاني هو تيار تقليدي يرى ان إسرائيل بذلك تببتلع لقمة لن تستطيع هضمها، وأن عدم إقامة دولة فلسطينية سيكون أكبر هدية للمتطرفين (المقاومين) كما صرح وزير الخارجية الفرنسي جان مارك ايرولت.
ومنذ انتخاب ترامب، ووعوده المتكررة عن نقل السفارة الأميركية إلى القدس، بدأت تخرج تحركات من التيار الأول للدفع في حل الدولة الواحدة، أبرزها عرض السيسي مجددا سيناء كحل للأزمة، وهو ما كشفه الوزير الصهيوني أيوب قرا قبيل سفر نتنياهو لواشنطن.
وفي المقابل بدأت تحدث تحركات مضادة قبيل رحيل أوباما، الذي مثل رأس الدبلوماسية التقليدية في الغرب، للتأكيد أن حل الدولتين ليس في صالح الغرب وليس في صالح إسرائيل نفسها، منها مؤتمر باريس للسلام الذي أكد مجددا على حل الدولتين، والذي صرح فيه وزير الخارجية الفرنسي تصريحه السابق عن خطورة عدم قيام دولة فلسطينية، وامتناع الولايات المتحدة عن التصويت على قرار تاريخي من مجلس الأمن يدين الاستيطان في الضفة الغربية، وقرار من اليونسكو باعتبار القدس مدينة فلسطينية خالصة لا سيادة لإسرائيل عليها، ثم إعادة التأكيد على هذا القرار في اليوم التالي لإعلان وثيقة حماس، وهي كلها جهود غربية يهدف لعرقلة حل الدولة الواحدة، وهو ما رأت أن تستفيد منه حماس!
***
الخلاصة:
إن المرونة التي قصدها السيد خالد مشعل يمكن رؤيتها في الاستفادة من تناقضات الوضع الدولي التي لا يراها إلا من يُشرح السياسة الدولية بمشرح دقيق، وينظر إليها بنظارة ترى بين الأبيض والأسود ألوانا كثيرة، دون المساس بالثوابت، أو التخلي عن الهدف الأسمى الذي من أجله نشأت الحركة في الأساس.
لذلك فقد أتى كلام مشعل المرافق لإعلان الوثيقة أكثر حزما ووضوحا، حين أكد أن الصراع على الضفة الغربية والقدس هي أصل الصراع مع الصهاينة، مع التأكيد على رفض فكرة الوطن البديل هنا أو هناك ثم أوضحها صراحة حين قال بالنص “أو على ضفاف سيناء”..
لقد جاءت الوثيقة كأكبر رد على صفقة القرن التي اقترحها السيسي. وإذا كانت حماس قد عبرت سابقا ثم عبرت مجددا عن كل ما تريده (وهو تحرير كامل فلسطين)، فإنها في هذه الوثيقة عبرت عن كل ما ترفضه وعما لاتريده، وهو مشاريع التوطين والوطن البديل التي يروج لها السيسي ومن هم على شاكلته!