لو احد علم انه هنالك كنز بمكان ما لن يتوانى لحظة عن السير إليه خاصة لو كان حاله متعسر بكل الأصعدة، فكيف لو علم أن هذا الكنز هو بالأصل له، وإرث أجداده الذين عاشوا بمجده قرون، وسادوا العالم بظله، وانه لم يصبح بحاله البائس هذا إلا بعد أن تمت القرصنة على هذا الكنز، فبالتأكيد سيجوب العالم ويخوض معارك وبحار وينقب تحت كل حجر عن مقدرات كنزه المسلوب.
هذا بالضبط ما فعله اردوغان مع الأتراك نزع غطاء الواقع السميك، وأطلعهم على حلي كنزهم الذي سلب منهم بشكل رسمي عام 1923، وتمت القرصنة عليه بقيادة مصطفى كمال اتاتورك، وبدعم ماسوني وصليبي ومكر صهيوني، فألغيت الخلافة ومسح كل ما يمت للهوية الإسلامية بصلة، وفرضت العلمانية بالقوة، وقد سبق هذا تشتت أجزاء ذلك الكنز عام 1916 باتفاقية سايكس بيكو، وبعد أن أطلعهم على خيرات كنزهم وبين لهم خارطة الطريق إليه ترك لهم حرية الاختيار بالسير اليه.
اردوغان ليس أول من فعل هذا، بل هو قد استلم تلك الخارطة من أساتذته الأولين، عدنان مندرس الذي تم الانقلاب عليه وإعدامه عام 1960 لأنه حاول إعادة شيء من الهوية الإسلامية لتركيا، وأستاذه نجم الدين أربكان الذي سجل أول اختراق للدولة العلمانية بتأسيسة “حزب النظام” وهو أول حزب سياسي ذا هوية إسلامية منذ إسقاط الخلافة، والذي حظر وأنشأ بعده حزب”السلامة الوطني” الذي بعد فوزه بالانتخابات تقدم بمشروع إلغاء الماسونية وإغلاق محافلها،وطالب بعودة الإسلام ورفض العلمانية، وكان مؤيدا للحق الفلسطيني ورافض للاحتلال، مما أدى لانقلاب كنعان إيفرين عام 1980 وحظر الحزب وسجن أربكان بعد الاجتماع الذي نظمه تحت عنوان “تحرير القدس”، وطالما كانت قضية القدس، واليد الصهيونية حاضرتين بقوة بمشهد الانقلابات كلها بدأ من الانقلاب الأول على السلطان عبد الحميد، حتى محاولة الانقلاب الأخيرة بتموز2016، حين كان قائد الانقلاب الجنرال ” يقين اوزطورك” الذي شغل منصب الملحق العسكري التركي بتل ابيب بين أعوام 1996-1998، لم يثني السجن اربكان عن مواصلة المسيرة فبعد خروجه أسس حزب “الرفاة” عام 1983، وفاز بالانتخابات عام 1995، ليكون أول حزب إسلامي يرأس البرلمان منذ سقوط الخلافة، وكعادة الفاشية العلمانية تم الانقلاب عليه وحظر عام 1998 بتهمة انتهاك الدستور والمبادئ العلمانية للدولة .
مما دفع تلامذة اربكان(العثمانيين الجدد) لاتخاذ موقفا جازما لإنهاء هذه المهزلة لاستحالة الاستقامة على هذا المنوال، فأنشئوا حزب “العدالة والتنمية” ليواجهوا به فاشية العسكر العلمانية بوسائل جديدة، وكان هدفهم كسب أصوات معارضة لصالح للصف الإسلامي من خلال مخطط تحسين المعيشة والاقتصاد والتعليم والصحة ، وعملوا على تقليص الصلاحيات الدستورية للجيش باستفتاءات شعبية، ورفع الاضطهاد الواقع على الهوية الإسلامية.
هذه المعركة كانت حامية الوطيس أكثر من سابقاتها خاصة مع دخول طرف ثالث لخط الصراع، والمتمثل بجماعة فتح الله جولن التي تتشابه بدورها مع الجماعات الماسونية إبان الانقلاب على السلطان عبد الحميد.
طيلة هذه العقود كان الصراع بين الإسلام والعلمانية الحق والباطل، وكان القمع والحظر تحت اسم مخالفة مبادئ الدستور العلماني للدولة، والذي كتبه قساوسة الكنيسة الأوروبية، لهذا كان الجنون الصليبي الذي أنهى الحفلة التنكرية المسماة بالحرية والديمقراطية، لأنها لن تسمح بتجاوز الدستور الذي فرضته كي لا ينهض المارد الإسلامي الذي خدرته بغزوها الفكري قبل العسكري ودستور يسلب الأمة هويتها ويجردها من قيمها الإسلامية، لأنه إن نهض لن يكب بعد اليوم بل سيثير أجزاءه التي ضاعت منه ويمد لها يده ليعينها على النهوض، وبرغم أن اردوغان لا يعمل لتطبيق الشريعة الإسلامية إلا أنهم مدركون لخلفيته الفكرية وأيديولوجيته الإسلامية وان كل إجراءاته تسير نحو عودة تركيا لذاتها الأصلية الإسلامية، إضافة لتطلع اردوغان لعام 2023 الذي فيه ستكن تركيا من الثماني دول العظمى، كذلك هو مئوية إسقاط الخلافة، فكان لا بد من حالة السعار الصليبية حين لمحت فيه حفيد الفاتح الذي يلوح لهم برايته كأنه يقول “أيها التاريخ عدنا قدر رجعنا من جديد”.
لكن كل الحقد الأوروبي لن ينجح دون أعوانهم بداخل تركيا، وكان هذا واضحا بعد نتائج الاستفتاء ورجحان الكفة المؤيدة للتعديلات الدستورية، فسرعان ما طعنوا بنزاهة الاستفتاء، وأعلن اكبر أحزاب المعارضة “الشعب الجمهوري” تقديم طعن ضد الديمقراطية للجنة الانتخابية العليا مطالبا عدم اعتماد نتائج الاستفتاء،فتبسمت ضاحكة، وتذكرت أن هذا بديهي فلن يقبل حزب أسسه أتاتوك بطمس الهوية العلمانية ولو بالتجرؤ على مادة واحدة لان بهذا قد يكن مقدمة لتغييرات أخرى فيه، وأن ديمقراطيتهم لا تقبل سواهم، إضافة لان النتائج كانت متقاربة مما أشعرهم بان لهم صوت بالشارع، قد يستغلوه باللجوء لاحتجاجات ومظاهرات محدودة بالبداية كي لا يتم التصدي لها بدعوى تعطيل العمل والشأن العام، لكنها بهذا تكرس فكرة الاحتجاج، وتكبر تلك المظاهر الاحتجاجية التي قد يتم مواجهتها بحزم، فتظهر بمظهر المظلوم وان اردوغان دكتاتور، وان تصديه للمعارضة هي الدكتاتورية التي حذرناكم منها بالاستفتاء، قد تصل لمخطط الإطاحة بالرئيس، وعليه فاني يا سيادة الرئيس أنبهك رغم كامل ثقتي بما أنعم الله عليك به من حكمة وبصيرة، أن لجوء المعارضة للطعن وإن كان بظاهرة توجه حضاري ولجوء للقانون، إلا أن بباطنه مكر ودعوة للانتقام والانقلاب، ولو على هيئة انقلاب ناعم ،سيما وانك صرحت مؤخرا انه إن لم توافق المعارضة على سن قانون الإعدام بحق الانقلابيين فستلجأ للاستفتاء عليه، وهنا تكمن معركة وجود اسمها الأوحد “أكون أو لا أكون”، فهذا القرار يجمع خصوم الأغلبية المنبثقة عن الديمقراطية باردة شعبية، من المعارضة العلمانية وإعلامها والجيش الذي وان كان فيه تغيير كبير بعد محاولة الانقلاب إلا انه بالتأكيد ما زال فيه تلامذة أتاتورك ومؤيديهم من عامة الشعب ورؤؤس الأموال، وهنا لا بد من ذكر نصيحة صاحب البصيرة الشيخ حازم أبو إسماعيل للرئيس مرسي قبل الانقلاب عليه بأقل من ثلاثة أشهر حين قال ” تهديد الزند بحبس مرسي تلويح بالانقلاب ،على مرسي أن يسارع بتشكيل حكومة ثم عزل المجلس العسكري وتعيين وزير دفاع جديد”
ولإبعاد هذه المخاوف وتفاديا لانقلاب قد ينجح لا قدر الله وان تمت مقاومته لبعض الوقت، هو حل واحد وبيد الرئيس اردوغان وحده أن يسارع بإجراء حركة تغير كبيرة وعلى جميع المستويات في قيادات الجيش خاصة وانه أيضا يؤكد على نيته خوض مشاريع عسكرية إضافة لدرع الفرات، كذلك تغير بصفوف الشرطة أيضا ، وان يستمر التغيير لفترات وليس لمرة واحدة، وبعدها ليعارض من شاء ما شاء فجناح القوة لكل خيانة ومؤامرة قص.
عام 1916 قطعت أوصال الجسد الواحد وعام 1923 ضرب الجسد كاملا وغيب عن الوعي لعقود، وعام 2016 فشل انقلاب نرجو الله أن يكن المحاولة الأخيرة، لكنه كان بقدرة الله ليضخ دماء جديدة تنعش الجسد فينهض تدريجيا، ونرجوه أن يكن عام 2023 وما بكنفه من أعوام خير على هذه الأمة، والتئام لجرحها وتجميع شملها ووصول لكنزها المسلوب الذي باتت خريطته بيدها و وضحت معالم الطريق إليه.