عادة لا تترك أنظمة الحكم الشمولية رعاياها، خاصة المعارضين، بعيدًا عن أعين أجهزتها أو جواسيسها ما داموا خارج الجدران الأربعة التي تسعى السلطة إلى جعلها سكنًا لكل معارض؛ وقد شهد التاريخ بذلك، وليست بعيدة عنه دول مثل الصين وكوريا الشمالية وروسيا؛ ومن الدول العربية فحدّث ولا حرج.
ويبدو أن النظام في مصر أراد استكمال هذه المنطومة التي تجعل المواطن المصري المغترب مرصودًا في كل حركاته لأهداف سياسية مخابراتية تحت دعاوى إجرائية متنوعة، لن يكون آخرها “قاعدة بيانات دقيقة لخدمة المغتربين”.
ويرى مهتمون بالشأن المصري أنها قد تحولت بعد انقلاب يوليو 2013 إلى سجن كبير لعديد من النشطاء الذين مُنعوا من السفر وينتظرون الاعتقال بين الفينة والأخرى. أما الذين لم يُمنعوا من السفر ونجحوا في مغادرة البلاد فيبدو أن النظام قد تفرغ لهم بعد أن أحكم سيطرته على كل صوت بالداخل؛ فاتجه إلى فكرة بناء قواعد بيانات متكاملة للجاليات المصرية بالخارج؛ ما أثار ريبة مغتربين معارضين يخشون ترصد الحكومة لهم بعد خروجهم بشكل غير رسمي، ومغتربين مؤيدين يخشون تحميلهم مزيدًا من الأعباء.
الصحفي عبدالمنعم محمود لم يستوعب امتناع سفارة بلاده في لندن عن تجديد جواز سفره، رافضًا ما طلبه منه السفير بضرورة العودة إلى مصر لتجديده؛ فالعودة تعني -ربما- السجن، وفي أحسن الأحوال المنع من السفر؛ ليصبح الوطن سجنًا كبيرًا.
قبله تعرّض السياسي أيمن نور إلى المنع نفسه، ومثلهما كثيرون باتوا ينظرون بريبة إلى كل خطط الحكومة تجاههم حتى لو بدت جيدة في ظاهرها.
البطاقة القنصلية
وأعلن وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات ياسر القاضي ووزيرة الدولة للهجرة وشؤون المصريين بالخارج نبيلة مكرم في بيان مشترك عن “منظومة تقنية لخدمة رعايا مصر بالخارج، تبدأ ببناء قواعد بيانات متكاملة للجاليات المصرية المقيمة بالخارج وإنشاء صندوق لدعم (البطاقة القنصلية)”.
ويخشى مصريون مغتربون أن تتحول قواعد البيانات هذه إلى أداة ترصّد للمعارضين بالخارج، وحتى المؤيدون يخشون أن تصبح أداة لحصرهم وما يدخرون؛ وبالتالي تحميلهم مزيدًا من الأعباء.
وتشرح وزيرة الهجرة مميزات “البطاقة القنصلية” بالقول إنها “تساهم في إنجاز قاعدة بيانات دقيقة للمغتربين، ودراسة كيفية تنفيذها بالتعاون مع وزارات الخارجية والداخلية والهجرة“.
شكوك وهروب
ويتشكك مؤسس حركة “بداية”، الناشط شريف دياب، في الخطوة، ملمحًا إلى أن “الفترة التي تلت الانقلاب شهدت هروب مصريين كثيرين إلى الخارج؛ سواء لأسباب سياسية خشية القتل والقمع والسجن، أو لأسباب اقتصادية، أو حتى لأسباب اجتماعية بحثًا عن حياة مستقرة”.
وأكد دياب في تصريحات تلفزيونية أن الحكومة بحاجة إلى تحديث الإحصائيات الموجودة لديها حول المصريين في الخارج؛ لأن كثيرين خرجوا دون تسجيل أسمائهم ولا أماكن إقاماتهم، ضمن التغريبة الأكبر للمصريين في تاريخها الحديث.
أهداف اقتصادية
وقال دياب، الذي خرج من مصر بعد سجنه لفترة، إن إنشاء قواعد بيانات للمصريين بالخارج أمر طبيعي لدولة طبيعية؛ لكن كل خطوات الحكومة تجاه المواطنين بالداخل أو الخارج “تجعلنا نسيء الظن بها”.
وأشار إلى أنه “بعد أن استنزفت الدولة أموال المصريين بالداخل تتجه الآن إلى أموال المصريين بالخارج، كما بدا من تحركات الوزيرة نبيلة مكرم مؤخرًا وحديثها دائمًا مع المصريين بالخارج عن ضرورة دعم الاقتصاد”.
نوايا غادرة
ويقول الناشط عبدالرحمن عز إن “السلطة الحالية سلطة انقلاب لا يجب التعامل معها رسميًا إلا في حدود؛ منعًا لإضفاء شرعية عليها”؛ وعليه فإن “إقدام هذه السلطة على عمل بيانات عن المغتربين يمكن أن يحمل نوايا غادرة، فهي سلطة تفتقد الثقة حتى لدى مؤيديها؛ خوفًا من استغلالهم لجمع المال منهم، وبلغ الأمر من السوء درجة القلق من التعامل مع السفارات”.
ويتوقع الناشط المقيم بالخارج ياسر سليم أن يتم “توظيف قواعد البيانات سياسيًا بالتعنت مع المعارضين أثناء دخولهم لمصر وخروجهم منها، أو منعهم من السفر وعدم منحهم تصاريح سفر أثناء إجازاتهم، والتضييق عليهم في الدول التي يعملون بها، ومحاولة عمل اتفاقيات مع الدول لترحيلهم بعد تزويدهم بأسماء المطلوبين، ووضع أسمائهم على قوائم ترقب الوصول، وتزويد الإنتربول بأسمائهم، والتحفظ على أملاكهم داخل مصر، ومضايقة ذويهم”.
ويضيف ياسر سليم: “أما المغتربون المؤيدون فيمكن أن تنال منهم قواعد البيانات عبر فرض رسوم على كل المقيمين بالخارج؛ فموظفو الدولة العاملون بالخارج من الطبيعي أن يدفعوا للدولة حينما يعودون في الإجازات السنوية، وذلك لتجديد الإجازات؛ لكن غير موظفي الدولة لا تستطيع الحكومة فرض رسوم عليهم إلا من خلال تصريح السفر”.