هل يشعر عبد الفتاح السيسي بالاستقرار في الحكم فعلاً؟ هل بات مطمئناً إلى أن حجم مقاومة انقلابه، ومعارضته، لا يكفي لتهديد استمراره في ممارسة سلطة مسروقة ومغتصبة؟
أزعم أن النظام الذي يحكم بالبلطجة، وبالدجل، وبمصادرة كل مظاهر الحياة في المجتمع، هو نظام هش ومذعور ومرتبك، مهما توفرت له أشكال من الدعم الخارجي، والرعاية الإقليمية.
النظام الذي يخاف من مباراةٍ في كرة القدم، بحضور الجماهير، هو نظام ضعيف ومتهالك.
النظام الذي يسجن أطفالاً، ويطارد عبارات غضب على مواقع التواصل الاجتماعي، ويقتل الحياة الجامعية، ويطلق قطعاناً من المبتذلين لتدمير الوجدان العام، واختطاف الوعي بحكايات اغتصاب الأطفال الرضع، ومضاجعة الكلاب، وداعيات الرقص الشرقي، هو نظام أوهن من بيت العنكبوت، حتى وإن بدا متغطرساً ومنتفخاً ومفرطاً في استخدام آلات القمع والبطش.
النظام الذي يظن أن تحليق أسراب الغربان والبوم في الفضاء العام تقول للناس إنه لا فائدة من المعارضة، ولا جدوى من الصمود، ولا طائل من وراء أية محاولة للتخلص من هذا العار التاريخي، هو نظام يستشعر ضعفه وركاكته.
من هنا، يمكن التعاطي مع انفجار أنابيب التحبيط والتثبيط، كلما لاحت في الأفق بادرة انتظام في مشروع وطني حقيقي، للتصدّي لكل هذا الاستبداد والفشل، والانهيار في مقوّمات الدولة المصرية، بما يبدو معه وكأنه يحول نكتة “خلايا المناخ التشاؤمي” التي حوّلها نظام السيسي إلى موضوع أمام القضاء، وآلية لاصطياد المعارضين، والزجّ بهم في السجون، إلى منهجيةٍ في العمل، ووسيلة لإلحاق الهزيمة النفسية بصفوف المعارضة.
وعلى ذلك، تصبح تلك الألحان الجنائزية، الآتية من مقام “لا فائدة من المحاولة”، ولا حيلة أمام هذا التوحش، تصبح شيئاً يرضي السلطة، سواء كان ذلك بقصد، من عازفي نوتة اليأس، أو بدون قصد.
والحقيقة، ومنذ البداية، فإن غالبية الذين انحازوا لخيار التصدي للظلم، ومناهضة الاستبداد وجرائم الحكم المنظمة، لم يختاروا هذا المسار بوصفه فرصة استثمارية واعدة بعوائد أرباح مضمونة، على المدى القريب، فهذا اختيارٌ لا علاقة له بقوانين السوق، وقيم التسوق، أو التسفل.
هذا اختيار أخلاقي ووجودي بالأساس، ليس مهنةً أو حرفةً تعود على أصحابها بالرزق الوفير، بل العكس هو الحاصل، ذلك أنه الاختيار الذي يعود على أصحابه بأفدح الخسائر المادية، ويسدّدون فواتيره الباهظة، موتاً وسجناً ونفياً وتشريداً، فيما يرفل الممالئون المتواطئون مع القبح في نعيم عطاياه.
هو اختيار المدافعين عما يرونه حقاً وعدلاً، وواجباً أخلاقياً ووطنيا، اختيار أحمد عرابي وعمر المختار وأحمد ياسين الذي كان عجوزاً مقيداً فوق كرسي متحرّك، لكنه كان يمتلك براح الكون كله، براح المعنى الأخلاقي وفضاء القيمة الإنسانية.
هو ذلك الحق المر، بتعبير الراحل العظيم الشيخ محمد الغزالي، والذي عبر عنه بتأملاته في الدين والحياة، من خلال سرد هذا الحوار:
قال لي صديق: إن الاختبار الإلهى يصل إلى أن يوضع المرء تحت حد السكين في انتظار الذبح
قلت له: إذن، ينبغى ألا يزيغ اليقين، ولو تحت حد السكين.
قال: وفى ثباته يكون الفرج العاجل.
هو أيضاً اختيار الواجب الأخلاقي، كما عبر عنه فيلسوف ألمانيا العظيم، إيمانويل كانط، في نظريته البديعة الخلابة عن “الواجب الأخلاقي”، وتعريفه أن “الواجب منزّه عن كل غرض، فلا يطلب لتحقيق المنفعة أو بلوغ السعادة، وإنما ينبغي أن يطلب لذاته، أي ينبغي أن نؤدي واجبنا”، ويوضحه أكثر بالقول “ليست الأخلاق هي المذهب الذي يعلمنا كيف نكون سعداء، بل هي المذهب الذي يعلمنا كيف نكون جديرين بالسعادة”.
وأيضاً إن “قيمة الفضيلة إنما تزيد كلما كلفتنا الكثير، من دون أن تعود علينا بأي مكاسب”.
هو اختيار عصام سلطان، وكثيرين مثله في محبسهم، يفضلون الإعدام المادي على التماهي مع الظلم والجريمة، رافضين شراء حياتهم مطأطئي الرؤوس، بإماتة ضمائرهم، والتخلي عن نقاء قضيتهم.
لا نزعم أننا نساوي مثقال ذرة من محمد الغزالي، أو إيماويل كانط، أو أيٍّ من العظماء الذين أضاءوا التاريخ الإنساني بصمودهم وتمسّكهم بالعدل والحق، ولا نطالب الجميع بأن يكون مثلهم سواء بسواء، ولا نصادر حق أحد في الركون إلى الراحة، ونفض اليد، والرضا بالمكوث على أرصفة اليأس والاستمتاع بلذة العجز التبريري، لكننا فقط نرجوهم أن ينأوا بإحباطهم وعجزهم عن الذين قرّروا الاستمرار في مسار المقاومة والرفض، وعدم الإذعان لواقع مقبض وكريه ومجحف.
استمتعوا بإحباطكم، من دون أن تصادروا حق الناس في الأمل وفي الحلم.