منذ بداية العام الجديد توضّح الأخبار السيئة التي تشهدها الساحة الليبية دخول الدولة في مرحلة جديدة من الفوضى غير المنتهية، وتحطم آمال وجود فترة من الهدوء؛ بسبب تصاعد وتيرة الصراع في أربع مناطق من الدولة.
وفي مارس، انتقلت السيطرة على موانئ النفط في شرق سرت بين أيدي الجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر والمجلس الرئاسي المدعوم من الأمم المتحدة وبعض الدول، وفي الجنوب استمر الصراع بين قوات حفتر وجماعات مسلحة من مدينة مصراته.
وفي الشرق، لا تنتهي التصادمات بين الجيش الوطني الليبي ومجلس الشورى الإسلامي المحلي في بنغازي منذ 2014م.
وانقسمت الدولة بين حكومات متنافسة منذ 2014؛ حيث تتمركز واحدة في الشرق واثنتان في طرابلس. وفي مايو 2014م، بدأ الجنرال حفتر عملية الكرامة ضد المتمردين الإسلاميين، وركزت العملية في بدايتها على شرق مدينة بنغازي. وبعد شهر، كونت مليشيات من عدة دول في غرب ليبيا تحالف “فجر ليبيا” ودخلوا إلى مدينة طرابلس؛ وتحول الصراع بين القوى التي هزمت معمر القذافي إلى صراع من أجل السلطة والموارد.
وأدى توسط بعثة الأمم المتحدة في ديسمبر 2015م إلى توقيع اتفاقية سياسية ليبية، وكانت تهدف إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية من أعضاء البرلمان من شرق ليبيا وغربها. ولكن، أثناء محاولة تنفيذ هذه الاتفاقية انتهت ولاية مارتن كوبلر، الممثل الخاص لهيئة الأمم المتحدة في ليبيا؛ حيث خسر ثقة الأطراف الأساسية في ليبيا.
وحاول أنطونيو غوتيريس، أمين عام الأمم المتحدة، تعيين رئيس الوزراء الفلسطيني السابق سلام فياض ليكون الممثل في ليبيا؛ ولكن باءت محاولاته بالفشل بسبب اعتراض أميركي باستخدام حق الفيتو. وفشلت محاولات تفاوض أخرى اقترحتها عدة دول، خاصة مصر والجزائر. وكنتيجة لذلك؛ انهارت قنوات التواصل بين شرق ليبيا وغربها.
وأصبحت روسيا في المشهد من خلال محاولات ملء الفراغ الذي تركته الأمم المتحدة وعدم اهتمام إدارة ترامب والأوروبيين بالوضع الليبي.
وحتى الآن، تبدو أهداف روسيا غير واضحة؛ ولكن يبدو أنها تسعى إلى استراتيجية تعترف بتقسيم الدولة، من خلال وعدها لحفتر بدعم عسكري وسياسي لمعركته القادمة في الشرق، بينما توقع عقود نفط وتناقش فرص تبادل السلع ومستقبل مشروعات البناء مع مؤسسات في طرابلس. في الوقت الذي تتكاثر فيه الأقاويل بشأن مساعدة القوات الخاصة الروسية لحفتر؛ إلا أنه لا يوجد حتى الآن دليل على مساعدات عسكرية روسية للجيش الوطني، ويمكن القول إن روسيا تنوع استثمارها السياسي في ليبيا عن طريق الحديث مع كل الأطراف.
زيادة روسيا لدعمها السياسي وموجة معاداة الإسلاميين في واشنطن تسببتا في زيادة اعتقاد حفتر أنه لا يوجد فائدة من التفاوض على حل سياسي مع القوات في غرب ليبيا. وبالرغم من الضغط الشديد من الجانب المصري؛ إلا أن حفتر رفض مقابلة المجلس الرئاسي أو رئيس الوزراء فايز السراج في القاهرة في فبراير الماضي لمناقشة خارطة طريق للتفاوض.
وأصر على التركيز على هدفه الأساسي في قتال المتطرفين، من خلال زيادة الضغط على قوات مصراتة في الجنوب وفي مقاطعة الجفرة من خلال إعلان تحرير وشيك في طرابلس.
وتواجه غرب ليبيا خطر التقسيم؛ حيث تقلّص المجلس الرئاسي إلى إثنين من الأعضاء التسعة، ويفتقر إلى أي سيطرة ديناميكية على الأرض، وتهيمن على العاصمة مجموعة من المليشيات التي تتصارع حاليًا مع جماعات مسلحة موالية للحكومة المنافسة.
ويبدو أن التسوية السياسية بين الحكومات المتنافسة لن تحدث في أي وقت قريب؛ بسبب قلة الرغبة في الوصول إلى حل وسط وقلة الأطراف الموثوق بها من الغرب.
إذا كانت ليبيا والمجتمع الدولي يرغبان في تجنب فصل جديد من معركة دموية في هذه الحرب الأهلية، يجب عليهما التركيز على ثلاثة مسارات خلال الفترة القادمة بالتوازي مع المفاوضات:
أولا: تحتاج ليبيا إلى آلية منع الصراع لتجنب التصعيد، وإذا لم يستطع مبعوث الأمم المتحدة فعل ذلك فيجب على أي طرف غربي آخر التدخل. ومن الاطراف المقترحة بريطانيا أو رئيس الوزراء الفرنسي.
ولكن، ستكون هذه الأطراف موجودة مؤقتًا لحين عودة الأمم المتحدة لنشاطها؛ خاصة بشأن وقف إطلاق النار والعمل على مراقبة انتهاك حقوق الإنسان. وتتمثل الطرق التي يجب لأي طرف من هذه الأطراف اتباعها في إنشاء قنوات اتصال دائمة في تحرير السجناء، وإعادة فتح الطرق، ومشاركة المساعدات الإنسانية.
ثانيًا: تحتاج الدولة إلى اتفاقية اقتصادية بشأن طريقة مشاركة البترول؛ حيث لدى ليبيا واحد من أكبر احتياطيات النفط في إفريقيا. وفي أعقاب حرب 2011، أنتجت ما يقرب من 1.6 مليون برميل نفط في اليوم؛ ويعد هذا النفط أحد أسباب الصراعات الدائرة حاليًا في ليبيا. ويمكن أن تاخذ هذه الاتفاقية بعض الوقت؛ ولكن أثناء ذلك يوجد معياران يمكن أن يمثلا بداية جديدة: يجب أن تقوي حكومة طرابلس الدعم المادي لكل بلديات ليبيا، ومنهم البلديات التي تقع ضمن نطاق سيطرة حفتر، ويجب أن تخضع منشآت النفط إلى سيطرة مؤسسة وطنية مستقلة في طرابلس.
ثالثًا: يجب تركيز الجهود الدولية على طرابلس؛ حيث إن أكثر شيء هام الآن هو وجود خطة لتحرير المدينة من الأسلحة الثقيلة، وإخراج المليشيات من المناطق المأهولة بالسكان. ويعتبر ذلك شرطًا هامًا للسماح للحكومة الليبية لتسهيل المساعدات الدولية.
وتعتبر هذه المهمات صعبة، ولكن البديل لها هو تصعيد يمكن أن يدمر ما تبقى من المؤسسات الليبية وخلق بيئة لظهور داعش مرة أخرى.
ومن الأطراف الدولية التي يمكن أن يكون لها دور في هذا الوضع “أميركا”؛ لدفع ليبيا نحو السلام، حيث يمكن لواشنطن بقوتها الشديدة والهادئة أن تضغط على كل الأطراف الليبية ليصلوا إلى اتفاقية، في حين يمكنها منع أطراف خارجية من الدخول إلى الدولة.
ويبقى السؤال في مدى رغبة إدارة ترامب في التدخل في الوضع الليبي، ويجب عند مراجعة مجلس الأمن لسياسة أميركا أن يضع في اعتباره أهميتها في مكافحة الإرهاب وعدم الاستقرار.