بقلم: طارق عبدالفتاح
الكرامة …. الحق …. الشباب …. الوقت …. الأخلاق …… إلخ، قيم عظيمة اتفق العقلاء على أنها أثمن ما تملك الأمم ورغم ذلك رخَّصناها.
فالكرامة …. التى هى رأس مال الحُر صارت فى بلادنا تباع من أجل عرض من الدنيا قليل وأظهر مثال على ذلك نكوص الكثير عن حراسة الثورة من أجل لقمة العيش وكاد المسيطرون على إدارة المرحلة الإنتقالية فى مصر أن ينجحوا فى سرقة الثورة عن طريق اللعب بالعامل الاقتصادى لعلمهم أن الكثير من أبناء الوطن لا يعرف للكرامة قيمة إذا كان الثمن المبذول فى مقابلها لقمة العيش.
والحق … الذى تأنف نفوس النبلاء قبول شيئ غيره ولو بذلوا فى سبيل ذلك نفوسهم صار اليوم عند طائفة من أبناء قومى شئ مطروح للنقاش على طاولة المفاوضات فلربما رأيت الرجل الذى كان يبدوا فى نظرك للوهلة الأولى شريفا من الممكن أن يبيع الحق من أجل الوصول إلى غاية أولى _ من وجهة نظره هو لا بمقاييس الحق والباطل.
والشباب …. الذى هو أكثر مراحل العمر قيمة رخَّصناها بقصد أو بدون قصد حينما عملت المؤسسات والجماعات على تكريس مبدأ الأسبقية كمبدأ أساسى فى اختيار القادة والزعماء وأصحاب القرار (ولا أستثنى من ذلك أحد!!).
والوقت …. الذى كانوا يعلموننا ونحن صغار أنه كالسيف إن لم تقطعه قطعك اكتشفنا بعد تقدم العمر أنه كان كلاما يدرَّس دون أن نجد أحدا ممن علمونا يدرك ذلك حقيقة الإدراك فقراراتهم وتحركاتهم كانت ولا تزال من أبطئ ما يكون حتى علم خصومنا ذلك منا فصاروا يلعبون بنا لعب الصبى بدميته مستغلين عامل الوقت ولا أظهر على ذلك من القضية الفلسطينية ودور مباحثات السلام فى إماتتها فى قلوب المسلمين والثورة المصرية ودور القائمين على إدارة المرحلة الانتقالية فى إخماد الحالة الثورية فى الشارع المصرى.
أما الأخلاق …. فهى قيمة جميلة عزَّت فى مجتمعات صارت تحكمها الآن الرغبات تحت ستار من القيم المصطنعة، ولكن أثمن ما رُخِّص والذى هو صمام الأمان لكل ما سبق وصاحب القدرة الوحيد على إدارة كل ما ذكرناه إدارة متقنة فهو العقل، ذلكم الشئ الذى كرمنا الله به على البهائم ورغم ذلك فقد انقسم الغالبية من أبناء قومنا إذاءه على قسمين قسم ضخَّموا من قيمته حتى رفعوه إلى مرتبة الألوهية فصاروا يردون به النصوص الثابتة المحكمة ويستخدمونه فى التلبيس على الناس فى أمور استقرَّ العمل بها عند عموم المسلمين فى كل العصور فهى من ثوابت الدين أو مما عُلم من الدين بالضرورة وهؤلاء حقيقة ليسوا هم المعنيون بهذا المقال فبطلان طرحهم أظهر من أن يحتاج إلى كثير نقاش وإنما أعنى الصنف الآخر الذى عطَل قيمة العقل تماما حتى صار كل من يحاول التفكير والمراجعة والتجديد عنده إما جاهل أو منحل أو يبيع الدين بعرض من الدنيا قليل حتى وإن كان فى تجديده هذا وتفكيره مستند إلى نصوص هى من الشريعة وليست من كتابات جان جاك روسو أو كارل ماركس، وكأثر سلبى خطير لهذا التصور عن قيمة العقل نشأ جيل عريض من شباب المسلمين لا يحسن أن يتخذ قرارا حاسما فى أمر من أموره الحياتية الفاصلة _ لا أقول من أموره الدينية _ حتى يرجع إلى شيخه أو معلمه، أو قد يلتزم فى أموره الحياتية برأى لا يعتقده هو ويعلم علما يقينيا أنه الاختيار الخاطئ نزولا على رأى جماعته، وكمثال واقعى على ما ذكرته فبالمثال يتضح المقال فقد حدثنى من أثق به أنَّه ناقش شابا ممن ينتمون لجماعة من العاملين على الساحة هذه الأيام فى اختيار جماعته لمرشحين فى دائرة من الدوائرغير مؤهلين على الإطلاق للدخول إلى المجلس وخصوصا فى هذه المرحلة الفارقة فى تاريخ الأمة، فقال له مفتخرا " وماذا يضيرنا فى ذلك هؤلاء مجرد صورة فى المجلس والرأى فى الأخير سيعود إلى مشايخنا " وسواءاً كانت هذه الكلمات تعبر عن حقيقة الأمر أو هى مجرد تصور فردى لهذا الأخ فهذا ولا شك نكوص عن الفطرة وامتهان تام لقيمة العقل أن يتحول المشايخ والعلماء فى أذهان قطاع من أبناء أمتنا من مجرد مرجعية لنا فى أمورنا الشرعية حتى لا نزيغ ونضل إلى سلطة مركزية تمتلك وحدها حق التفكير واتخاذ القرار لأن من دونهم لا يحق لهم تبنى أى وجهة نظر مخالفة وإلا سيصيروا من المارقين الهالكين.
وأنا أتساءل بالله عليكم ما الفرق بين هذه الصورة وصورة الدولة الثيوقراطية المقيتة التى كانت سببا رئيسيا فى انحلال أوروبا ونشأة أجيال فيها لا تعرف لله حقاً، هل تريدون أن يكره الناس الدين لأنهم يتصوروا أن آراءكم دين لابد عليهم الالتزام به ثم تظهر الأيام بعد ذلك أن اجتهاداتكم وآرائكم كانت خاطئة فيظن الناس فى الله الظنونا.