لم يكن تدخل إيران في سوريا لحماية بشار الأسد من السقوط عملا مجانيا من أجل استقرار المنطقة كما ادعت طهران، وكذلك كان التدخل الروسي.
والمتمعن في الواقع الديموغرافي السوري الآن يستطيع بكل سهولة التعرف على الأهداف الحقيقية للحضور الإيراني بل والتضحيات الإيرانية داخل سوريا، فالقصير في قبضة حزب الله كأنها لم تكن يوما سورية، وسكان حمص صاروا 400 ألف بعد أن كانوا مليونا ونصف المليون، وحبل التهجير في الزبداني على الجرار والقتل كذلك، أما “داريا” فقد صارت مدينة أشباح بعد أن كان عدد سكانها 250 ألف نسمة ومعضمية الشام ووادي بردي وسرغايا والتل وخان الشيخ، كلها تشكو التهجير القسري المستمر أو الإبادة البشعة.
بداية المساومة
منذ سنة 2013 بدأ النظام السوري يخير صراحة وعلنا المحاصرين من أهل المدن والقرى المستهدفة، بين أمرين إما التجويع والإبادة أو التسفير والتهجير، وتصاعد الأمر ليصل إلى مدينة حلب نهاية العام الماضي، حيث هجر عشرات الآلاف، وليضرب طوق التهجير حول دمشق.
وقبل أن يخرج النظام بسيناريو الهدن والمصالحات، كان إجبار السكان على الخروج عنوة وبالقوة العسكرية منهجا في عدد من مناطق البلاد، وذلك لإحداث تغيير ديمغرافي على أسس المذهب أو الموالاة، كما تؤكد المعارضة، أو لوصل مناطق نفوذه عسكريا وديمغرافيا.
ومنذ بدء هذا المسار، شملت عمليات التهجير التي جرى بعضها تحت سمع وبصر هيئات الأمم المتحدة في عدد من المناطق من خلال “الباصات الخضراء”، فيما تم الكثير منها، كما تؤكد بعض التقارير، في الخفاء.
مسلسل التهجير
القصيـر: سيطرت قوات حـزب الله على المدينة المتاخمة للحدود اللبنانية في ريف حمص الغربي في مايو 2013، وهجرت أهلهـا ومنعـتهم مـن العـودة إليهـا، وتشير مصادر المعارضة إلى أنه تم توطين سكان من الشيعة في المدينة.
مدينة حمص: تعرضت أحياء المدينة -التي تعد مهد الثورة- لقصف واسع ودمار كبير دفع غالبية أهلها للجوء والنزوح، وقد كان ضمن مخطط النظام لدفع الغالبية السنية للخروج، وبعد حصار دام لعامين، عقد اتفاق بين النظام والمعارضة برعاية روسية في 4 أبريل 2014، يقضي بإخراج المقاتلين وعائلاتهم، آخرها ما حصل في حي الوعر.
وتقول مصادر المعارضة إن عدد سكان حمص انخفض من 1.5 مليون قبل بداية الثورة السورية إلى قرابة 400 ألف نسمة حاليا، بعد أن هجّر قرابة 65% من سكان المدينة الأصليين نحو دول الجوار ومحافظة إدلب، ويأتي ذلك ضمن مخطط لتغيير التركيبة السكانية.
داريا: تعد داريا مركز الثورة في ريف دمشق الغربي، واحد أهم المدن الثائرة، وقد أجبر القصف والحصار الخانق لنحو أربع سنوات من بقي من سكان داريا على التفاوض مع النظام في أغسطس2016، والقبول بالتهجير القسري الذي فرضه عليهم أو إبادتهم، لتتحول المدينة التي كانت تضم 250 ألف نسمة قبل الثورة إلى مدينة فارغة من سكانها.
معضمية الشام: دخلت معضمية الشام في ريف دمشق الغربي في أكتوبر 2016 في مسار التهجير أو المصالحات بلغة النظام بعد سنوات من الحصار القاسي والقصف المستمر والعنيف، حيث أخرج مئات المقاتلين مع عائلاتهم نحو إدلب شمال سوريا.
الزبداني: تشير المصادر إلى أن حزب الله ينفذ سياسة تهجير في منطقة الزبداني الواقعة على الحدود اللبنانية في القلمون الشرقي، وذلك بعد فشل مفاوضات جرت في أغسطس2015 بين وفد إيراني وحركة أحرار الشام، وطالب الإيرانيون بمبادلة السكان الشيعة في كفريا والفوعة الواقعتين في إدلب بسكان الزبداني.
قدسيا والهامة: وافقت المعارضة المسلحة في بلدتي قدسية والهامة في ضواحي دمشق الغربية على اتفاق “مصالحة” مع النظام في أكتوبر 2016، أخرج بموجبه عدد من المسلحين والمدنيين من البلدتين نحو إدلب وتسلم جيش النظام البلدتين.
التل وخان الشيح: أبرمت المعارضة المسلحة في نوفمبر/تشرين الثاني 2016 اتفاقا مع النظام يقضي بـ”خروج “عناصر المعارضة المسلحة مع عائلاتهم والمدنيين الراغبين من البلدتين الواقعتين بريف دمشق الغربي إلى مناطق في إدلب، وهجر بذلك مئات السكان قسرا.
مدينة حلـب: شهدت مدينة حلب أكبر عملية تهجير، خاصة في المناطق الشرقية الواقعة تحت سيطرة المعارضة جراء استهدافها بالصواريخ والبراميل المتفجرة، وتشير التقديرات إلى أن عدد سكان هذه المناطق تراجع من نحو ثلاثة ملاييـن إلـى 300 ألـف نسـمة، وفي ديسمبر قبلت المعارضة المسلحة باتفاق رعته روسيا وتركيا ليخرج عشرات الآلاف من الأحياء الشرقية وليبسط النظام سيطرته على كامل المدينة.
وادي بردى وسرغايا: بعد عملية عسكرية كبيرة وقصف مستمر ومكثف على قرى وبلدات وادي بردى (شمال غرب دمشق) تم التوصل إلى اتفاق بين النظام والمعارضة المسلحة لإخلاء المنطقة، حيث هجّر مئات السكان إلى ريف إدلب، ودخل جيش النظام إلى قرى المنطقة، وهو ما تكرر أيضا في بلدة سرغايا.
وجرت معظم عمليات التهجير هذه وسط اهتمام إعلامي لا يخلو من رغبة النظام في الترويج لما يقول إنها مصالحات نابعة من إرادة ذاتية لسكان معظم تلك المناطق،على حد توصيفه في إطار الدعاية لهذا التوجه باعتبار سبيلا لحل الأزمة السورية، كما يقول.
خارج التغطية
وتشير دراسات وتقارير إلى أن عمليات تهجير واسعة تمت بعيدا عن أي تناول إعلامي وإن كانت الوقائع تشي بحصولها. وتؤكد دراسة حول التهجير القسري والحصار بهدف التهجير أيضا أعدها فريق حملة “لا للتهجير القسري في سوريا” أن ستة أحياء تعرضت للتهجير القسري في محافظة دير الزور، حيث إن هناك 750 ألف مهجر، وعشرات آلاف المحاصرين من قبل تنظيم الدولة الإسلامية الذي قام بعمليات تطهير وتهجير في المناطق التي يسيطر عليها في سوريا.
وفي اللاذقية، ذكرت الدراسة أن ستة أحياء تعرضت للتهجير، حيث إن مليون نسمة هجروا من منازلهم، و750 ألف مدني يعانون من التضييق في مناطق النظام، إضافة إلى أن معظم القرى والبلدات في ريف اللاذقية استبدل من سكانها موالون للنظام بعد استهدافها المباشر والمركز بالطيران الروسي والسوري.
كما تؤكد بعض الدراسات والتقارير أن النظام عمد إلى تهجير سكان قرى سنية في محافظة حماة، والقيام “بجراحات موضعية” غايتها إحداث تغيير ديمغرافي وإيجاد تواصل بين القرى العلوية أو الموالية له في هذه المحافظة، كما في محافظات أخرى، وهو ما ينفيه النظام دائما.
وتؤكد التقارير التي ينفيها النظام أيضا أنه وحلفاءه يسعون لتأمين الطريق الرابط بين دمشق والحدود اللبنانية بتهجير سكان قرى سنية وإسكان عائلات عراقية ولبنانية موالية له مذهبيا وسياسيا، وذلك من أجل تركيبة سكانية تحمي تخوم ما يسمى “سوريا المفيدة”.