الزائر لقريتي “العزيزية” و”بوصير”، الواقعتين على بعد 19 كيلو متراً فقط، جنوبي القاهرة، لن يصدق أن هذا المكان كان حسب مراجع تاريخية وروايات شعبية، مركزاً لحياة النبي يوسف بن يعقوب الذي أنقذ مصر من مجاعة مخيفة في العصر القديم.
سبب عدم التصديق أن القريتين، تعيشان وفق روايات أهلهما، حالة من الفقر تتناقض مع شهرتهما التاريخية، إذ كانتا تشكلان مع قريتين مجاورتين، هما: “سقارة”، و”ميت رهينة”، مدينة قديمة هي “منف” أول عاصمة في تاريخ مصر.
**حقيقة سجن يوسف
تنتسب قرية “العزيزية”، إلى قصر “العزيز”، وهو لقب وزير مصر الأول بوتيفار بن روحيب في العصر الذي عاشه النبي يوسف زمن الأسرة الفرعونية الثامنة عشرة نحو عام 1350 قبل الميلاد بحسب روايات توراتية وتاريخية غير مؤكدة.
وتضم القرية أيضاً حمام زوجته “زليخة” (راعيل بنت رماييل) ومخازن الحبوب التي تعرف بـ”تل العزيز”، على ما جاء في كتاب “صبح الأعشى في صناعة الإنشا” لمؤلفه أحمد بن على القلقشندي، الذي اطلع عليه مراسل الأناضول.
وتضم “العزيزية” أيضا ثلاثة أهرامات تاريخية وصفها القلقشندي في الكتاب ذاته بأنها “من أعظم أبنية المصريين القدماء (…) حيث يقال إن طول عمود كل هرمُ 317 ذراعا (الذراع 46 سنتيمترا)”.
أما السجن الذي يشاع أن النبي يوسف، عليه السلام، وُضع به، فقد كان مسرحاً لوقائع تفسير الروئ، فيوجد في “بوصير”، التي تضم أيضا مسجد موسى الذي ينسب إلى النبي موسى بن عمران، عليه السلام، وذلك وفق القلقشندي أيضاً.
هذا حديث التاريخ أما واقع الحاضر، وفق ما رصده مراسل الأناضول في جولة بقرية “بوصير”، فيشهد طغيان الفقر بين السكان، البالغ عددهم حسب تقديرات متداولة 17 ألفا، يعيشون وسط مشاهد طبيعية خلابة نسجها التداخل بين أشجار “السدر” و”النخيل” الممتدة حتى المرتفعات الجبلية التي تحوي بداخلها المعالم والآثار التاريخية.
وبالنسبة للقادمين من خارج المنطقة، يصعب الدخول إلي هذه المعالم خاصة ما يعرف بـ”سجن يوسف”، والسبب يعود، كما ذكر شرطي ضمن فرق الحراسة المنتشرة بالمكان للأناضول إلى تعليمات من وزارة الآثار مفادها أن “السجن غير مؤهل للزيارة”، وفق قوله رافضاً ذكر اسمه لكونه غير مخول بالتصريح للإعلام.
لكن موظفا بمنطقة “سقارة الأثرية” التي يتبعها الموقع ـ رفض هو الآخر ذكر اسمه للسبب ذاته ـ قدم وصفاً موجزاً للسجن، فقال إنه يتمثل في “كشك خشبي نصفه الأسفل محطم ومهدوم ومرسوم عليه نخلتين فوقهما لافتة مدون عليها آيات من سورة يوسف”.
وأضاف: “بالداخل لا يوجد سوى ما يشبه الضريح المغطى بالأقمشة الخضراء والبلاستيكية تحت قطعة كبيرة من الحجارة القديمة وأسفلها مدخل سرداب، يقود إلي غرفة كبيرة مهملة للغاية”.
يُقبل عدد من أهالي القرية والقرى المجاورة إلى محيط “السجن” للحصول على البركة والتضرع إلى الله، اعتقاداً منهم بأن” هذا المكان مستجاب الدعاء”، حسب تعبير شائع بهذه القرية .
ويتداول أهالي القرية روايات تبدو خرافية، لكنها تعزز لديهم هذا الاعتقاد، منها أن “لصوصاً سرقوا حيوانات مملوكة لفلاحين في القرية، فلما مروا أمام السجن ليلًا لم يستطيعوا التحرك حتى استيقظ الأهالي في اليوم التالي وألقوا القبض عليهم”.
وتأكيداً، قال بعضهم لمراسل الأناضول: “بالسجن ثعبان ضخم يحرسه”. وأضافوا: “الثعبان هاجم عددا ممن ينقبون عن الآثار أسفل المكان”.
واعترض أحمد سامي ـ أحد أبناء القرية ـ على هذه الروايات ووصفها بـ”الكاذبة”، فيما قال شرطي آخر مسؤول عن تأمين المنطقة الأثرية ـ رفض ذكر اسمه ـ “لا أحد يملك معلومة مادية أن هذا سجن يوسف الصديق”، مضيفا: “هي خدعة قام بها أحد الأشخاص وتداولتها الأجيال وراء الأخرى دون دراية بالحقيقة”.
وذكر أن عدداً من المواطنين “كانوا يتقاضون مبالغ من المواطنين مقابل منحهم بركة السجن”، متابعا: “لقد رأيت بنفسي شخصاً يدور بالمكان وفي يده عِجْل صغير ويدعو الله أن يفك عقمه ويرزقه بطفل”.
وللسجن وجه آخر سييء، إذ حوّله البعض إلى “وكر لتجارة المخدرات“، بينما استخدم آخرون محيطه مكباً للنفايات، ما جعل الدولة تضمه إلى نطاق قسم شرطة القرية لمنع الوصول إليه.
ووفق موظف بإدارة الآثار في المنطقة يدعى سلطان عبده فإن “وزارة الآثار أقدمت على إغلاق السجن نهائيًا أمام الزوار لحين تطويره بسبب الإهمال الذي حلّ به، فضلًا عن الأشياء المغلوطة التي كانت تحدث في نطاقه”.
**شواهد
من جانبه قال عمر الخضري، مفتش آثار بمنطقة سقارة (جنوبي القاهرة)، إنه لا يوجد دليل قطعي على وجود سجن يوسف عليه السلام في هذا المكان، لكن هناك عدة شواهد تثبت ذلك أبرزها قصر العزيز، وحمام “زليخة” العائد تاريخهما للعصر الانتقالي الأول الذي يعود له نفس زمن السجن.
وفي “العزيزية”، التي يقطنها حوالي 25 ألف، نسمة حسب تقديرات غير موثقة، لم يعد هناك أثر لـ”قصر العزيز”، وتحول “تل العزيز” الذي كان قديما مخزناً للقمح، إلى مجموعة من الأحجار المتحطمة الغارقة بمياه الصرف الصحي وسط القمامة والحشرات، فيما أصبح “حوض زليخة”، الذي كان بحسب الروايات المتداولة، مسبحاً لنساء النخبة، إلى منطقة زراعية واسعة، دفنت تحتها كل آثاره.
وأشار “الخضري، في تصريح خاص للأناضول، إلى أن جهات عدة أجرت أبحاثاً داخل السجن، لكنها لم تصل إلا أنه مقبرة فرعونية، أو معبد فرعوني، غير أنهم رجحوا كافة، أن يكون سجن يوسف، قائلًا إن “هناك طلاباً من جامعة الأزهر ومتدينين يأتون من محافظات عدة لزيارة السجن دون زيارة باقي الآثار الفرعونية”.
ودعا مفتش الآثار، الحكومة المصرية إلى استخدام هذا السجن لتدشين حملة دعائية لتنشيط السياحة بالمنطقة حتى لو كان احتمال إثبات كونه السجن المقصود ضعيفاً.
بالقرب من هذه الرواية، قال عمر زكي، خبير الآثار للأناضول إن “عدداً من المؤرخين (لم يحددهم) ذكروا في كتاباتهم أن يوسف الصديق وإخوته عاشوا في هذه القرية، حيث سميت بـ”العزيزية” نسبة لـ”العزيز” المذكور بالقرآن الكريم، وإن كان ذلك غير مسجل لدى الآثار المصرية لعدم وجود دليل مادي يثبته.
**رواية أهلية
من جانبه، ذكر محمود عفيفي، رئيس قطاع الآثار، بوزارة الآثار المصرية، أنه لا توجد دلائل مادية تثبت أن المبنى الموجود بقرية “بوصير” هو سجن يوسف .
ورأى “عفيفي”، في حديث عبر الهاتف للأناضول أن “كل ما يذكر هو أقاويل يتناقلها الأهالي دون إثبات”، غير أنه قال إن “هناك بعثة روسية تعمل حاليًا لتطوير منطقة ميت رهينة الأثرية بالكامل والتي تضم قريتي العزيزية وبوصير.