فمازال جزء كبير من التحليلات الجديدة حول الكيفية التي ستتشكل من خلالها سياسة الإدارة الجديدة تجاه الشرق الأوسط محض تخمينات، وهذه ترتكز بالدرجة الأولى على قراءة لشخصيات المسؤولين الذين جرى تعيينهم حديثا.
والأمر ذاته ينطبق على السياسة تجاه روسيا والصين وأوروبا. ما من شك في أن عدم معرفة تفاصيل ما ستكون عليه سياسات الإدارة الجديدة تجاه الشرق الأوسط وأوروبا لا يترك أثرا إيجابيا على الأزمات الحالية.
بل على العكس من ذلك تماما، فها هي القضايا التي ولدها أسلوب الإدارة السابقة من حيث اللامبالاة السياسية ومن حيث المسالمة والتردد تصبح أكثر هشاشة.
وفي مثل هذه الأجواء تجلس العلاقات الأمريكية التركية على خط التصدع. فمن ناحية، بينما قد يكون من الممكن إيجاد أجندة إيجابية عبر اتخاذ القرارات الصائبة واتخاذ خطوات مشتركة سريعة بشكل مسؤول، إلا أنه من الناحية الأخرى يمكن للخطوات غير المستقلة وغير الكافية أن تعمق حالة اللامبالاة السياسية للإدارة الأمريكية السابقة.
معظم، إن لم يكن كل، ما جرى من صعود وهبوط في العلاقات التركية الأمريكية خلال حقبة أوباما كان مرجعه التغييرات الراديكالية في الخطوات العملية -سياسيا ودبلوماسيا وعسكريا- التي اتخذت بشأن القضايا التي تتحدث عنها واشنطن وتعتبرها من صميم اختصاصها.
ما لبثت القيادة التركية الحالية تمسك بمقاليد الأمور منذ عام 2002، وهي نفسها التي كانت في السلطة في عهد إدارتي بوش وأوباما.
ويمكن القول بهذا الشأن إن خبرة تركيا في العمل مع الولايات المتحدة الأمريكية في المناطق المضطربة والساخنة بلغت مستوى لم تصل إليه أي من الدول الأخرى الكثيرة التي تعتبر من حلفاء الولايات المتحدة.
في عام 2003، كانت حكومة حزب العدالة والتنمية قد رفضت بشكل صريح عرضاً من إدارة بوش بالمشاركة في غزو العراق.
ومع ذلك، فقد تمكنت من العمل مع إدارة بوش لما يقرب من ستة أعوام على عناوين في غاية الصعوبة، وحول قضايا متداخلة، وفي مناطق ساخنة ومضطربة. مرت نفس هذه القيادة بثمانية أعوام من الصعود والهبوط في العلاقة مع إدارة أوباما التي رفضت احتلال العراق.
وعلى إدارة ترامب الآن إدارة هذه القضايا مع نفس القيادة التركية. ولربما شكلت هذه الحقيقة نقطة بداية جيدة من وجهة النظر الأمريكية والتركية على حد سواء.
من ينظر إلى العلاقات الأمريكية التركية على اعتبار ما آلت إليه الأمور ما بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر فإن قراءته للأمور ستكون قراءة منقوصة. ومع ذلك، فإن فترة ما بعد غزو العراق أيضاً، وبحد ذاتها، توفر أرضية غنية لتحليل العلاقات المتبادلة.
ثمة تحديات كبيرة وفرص عظيمة واجهتها العلاقات الناجمة عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وكذلك عن التطورات التي سبقت شن الهجمات في الحادي عشر من سبتمبر، وعلى أثر انتخاب ترامب رئيساً، وكذلك أثناء فترتي بوش وأوباما.
لم يكن من الممكن الحيلولة دون حدوث توجهات واتخاذ قرارات راديكالية خلال الفترتين. فقد اتخذت إدارة بوش قرارات راديكالية بغزو أفغانستان والعراق، وكن ثمن ذلك نشوء أزمات عميقة وموجة تسونامي سياسية ابتلعت منطقتي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بشكل تام.
إلا أن إدارة أوباما كانت قد اختزلت القضية بحيث تتعلق بصورة أمريكا فقط لا غير، دونما اعتبار لعمليات الغزو ولا للمآسي الإنسانية التي ترتبت عليها ولا للزلازل السياسية الناجمة عنها، واستعرضت مقاربات راديكالية من الناحية البلاغية وأطلقت نداءات لصالح الديمقراطية والتغيير في المنطقة.
ولم يقتصر الأمر على قيام الرئيس أوباما بإطلاق هذه النداءات، بل لقد ألقى محاضرات مهمة، وبعض نداءاته استقبلت في القاهرة على أنها دعوة إلى “الربيع العربي”، وفهمت مطالبته بالتغيير على أنها مطالبة بتغيير الحكومات. وكانت أكثر السبل شرعية وأقلها دموية لتحقيق ذلك تتمثل في إجراء الانتخابات.
أنجزت مصر ذلك، إلا أن ذلك السلوك الراديكالي تجلى تارة أخرى، ثم ما لبث التغيير في مصر أن ترك في حاله، لدرجة أن واشنطن لم تتمكن من وصف الانقلاب الدموي بأنه انقلاب. في نفس تلك الأثناء، انتهك نظام الأسد الخط الأحمر الذي حدد له في سوريا بشأن استخدام الأسلحة الكيماوية، إلا أنه وقع أيضا تجاهل تلك الانتهاكات. لم تكن هذه القرارات وما نجم عنها من أزمات عميقة تقل راديكالية عن القرارات التي صدرت بغزو كل من أفغانستان والعراق.
لم تفد القرارات الراديكالية المشار إليها أعلاه سوى في وقف تقدم العلاقات مع تركيا ومع منطقة الشرق الأوسط ككل وكذلك مع أوروبا، انطلاقاً من أرضية العقلانية. ولذلك فإن أهم قرار ينتظر من الإدارة الأمريكية الجديدة أن تتخذه هو لا محالة ترشيد القرارات الراديكالية التي اتخذت على مدى الخمسة عشر عاماً الماضية.
فقد تأرجحت الخمسة عشر عاما الماضية ما بين التدخل الراديكالي والسلمية الراديكالية، الأمر الذي يستدعي في الحقبة الجديدة إقامة نقطة توازن ويجعل من ذلك أولى الأولويات. بالإضافة إلى العناوين العامة للعلاقات التركية الأمريكية توجد على الأجندة ثلاثة مواضيع محددة.
من المؤكد أن هذه المواضيع المحددة ستتأثر برؤية أمريكا لأوروبا، وبطبيعة علاقاتها مع العالم الإسلام، وما إذا كانت ستفتح صفحة جديدة مع روسيا.
ويأتي في السياق ذاته ما إذا كانت الإدارة الجديدة ستنتهج سياسة عقلانية ومنصفة تجاه الاحتلال الإسرائيلي أم لا، وما إذا كانت ستتخذ قرارات راديكالية مثل نقل السفارة الأمريكية إلى القدس وإعلان جماعة الإخوان المسلمين منظمة إرهابية، حيث أن مثل هذه القرارات لن تؤثر بشكل عميق على المنطقة فحسب وإنما ستكون لها أيضاً عواقب ذات أبعاد كونية.
وبالعودة إلى القضايا الساخنة، ثمة ثلاثة عناوين لها أوضاع خاصة ضمن إطار العلاقات التركية الأمريكية: العراق، وسوريا، ومنظمة فتح الله غولن الإرهابية.
ابتداء من غزو العراق إلى الانتخابات التي جرت في عام 2010، التي أسست لمنظومة أمريكية إيرانية ضمنية وغير مسماة في العراق، التزمت تركيا موقفا ناقدا لجميع المقاربات المقترحة أو التي تم التقدم بها.
فقد كانت إعادة تشكيل العراق بطريقة طائفية عرقية خطيئة لا تقل جسامة عن خطيئة الغزو ذاتها، وتمخضت عن حالة من الفوضى العارمة والاقتتال في الداخل ولدت من رحمها مجموعات مثل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وأسفر عنها إزهاق حياة مئات الآلاف من العراقيين.
هذا بالإضافة إلى أن العراق بعد الغزو ظل يبتعد يوما بعد يوم عن التطبيع الذي يأتي في العادة بعد مرحلة الفوضى الداخلية العارمة. وفي فترة ما بعد عام 2010، التي شهدت إقصاء الإدارة الأمريكية للقائمة العراقية وحرمانها من الحيز الذي استحقته عن جدارة في الانتخابات، بات المشهد الفوضوي في العراق أمراً محتما لا فكاك منه.
يعيش العراق حاليا حالة من الاضطراب الشديد ويجد مشكلة كبيرة في البقاء متماسكاً، بل لقد أصبحت أزمة العراق خلال ما لا يقل عن 37 عاما مضت هي الرحم الذي ولدت منه كثير من المشاكل الأمنية التي تعاني منها المنطقة اليوم بل ويعاني منها العالم بأسره.
إن الإصرار على أخطاء مرحلة ما بعد عام 2010 لن يؤدي إلا إلى توليد مزيد من الأزمات. وثمة حاجة ماسة إلى التعاون ما بين أنقرة وواشنطن من أجل وضع حد قدر المستطاع لما يقرب من أربعين عاماً من انعدام الاستقرار في العراق وضمان تحقيق إنجازات معتبرة وقابلة للديمومة في الحرب ضد داعش.
لا الهياكل الوصائية ولا المقاربات العرقية والطائفية لحكومة بغداد القابعة داخل المنطقة الخضراء أفلحت في فرض النظام واستتباب الأمن داخل العراق.
ومن العجب العجاب خلال السنوات الست الماضية أن هذه المقاربة التي غذت الفوضى والمواجهة داخل العراق كان يعززها بشكل غير مباشر صمت الولايات المتحدة ووقوفها متفرجة على ما يجري من أحداث. ولربما أدى عدم الاستمرار في نفس المقاربة إلى التأسيس لبداية صلبة جديدة للمنطقة وللعلاقات التركية الأمريكية.
لو ترك الأمر للإدارة الأمريكية لكانت موجة الغزو قد شملت سوريا هي الأخرى. ورغم أن الأمر ظل موجوداً ضمن الأجندة إلا أن ذلك لم يترجم عملياً في أرض الواقع.
والمثير في الأمر هو أنه ما أن ترجح احتمال الإطاحة بنظام الأسد حتى ترك الشعب السوري المتطلع نحو التغيير وحيداً في المعمعة تماماً كما فعل بباقي أقطار الربيع العربي.
وما لبثت الإدارة الأمريكية التي كانت في وقت من الأوقات في حالة من التعاون وعلى علاقة جيدة وفعالة مع تركيا أن دخلت في حالة عميقة من الحيرة والارتباك، وباتت بلا قرار ولا سياسة.
كانت السياسة المفضلة لدى إدارة باراك أوباما لا تقل راديكالية عن السياسات التي انتهجتها من قبله الإدارات السابقة وتضمنت قرارات بغزو أفغانستان والعراق.
فمن خلال قراره إعطاء الضوء الأخضر للانقلاب على أول حكومة منتخبة في مصر، كان واضحاً أن أوباما سيتخذ من القرارات بشأن الشرق الأوسط ما لا يقل راديكالية عن تلك القرارات التي اتخذتها من قبل إدارة جورج دبليو بوش.
في الوقت ذاته الذي وقعت فيه مذبحة رابعة في مصر كانت الأسلحة الكيماوية تستخدم في سوريا. وبات محفورا في الأذهان الآن أن أقل تكلفة لمطلب التغيير في المنطقة كانت مصر بينما كانت الأكثر تكلفة هي سوريا.
وهنا تجلت الأزمة السورية، بعد تحول بنيوي ومؤسساتي، في ثلاثة وجوه. أما الأول فهو المنظمات الإرهابية والحروب التي تخاض بالوكالة داخل سوريا، وأما الثاني فهو قضية الإرهاب العالمي، وأما الثالث فهو أزمة اللاجئين.
تركيا هي العنوان المباشر لهذه الوجوه الثلاثة، فتركيا تشترك مع الولايات المتحدة في الحرب ضد داعش وفي الحرب العالمية ضد الإرهاب، ولا توجد أدنى مشكلة في ذلك.
إلا أن الصدام الرئيس في العلاقات التركية الأمريكية يتعلق بأولويات واشنطن في القتال ضد المنظمات الإرهابية في سوريا.
وذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية ترغب في الاستمرار في دعم واحدة من اثنتين من منظمات الإرهاب التي تستهدف تركيا بعمليات هجومية، وتأمل في أن تقف تركيا متفرجة بصمت دون أن تفعل شيئاً.
بادئ ذي بدء، إن تعاون واشنطن مع حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، والذي يشن هجمات إرهابية ويقوم بتفجيرات انتحارية داخل تركيا، ليس فقط أمراً غير مقبول وإنما أيضا أمر لا يطاق. فحتى حينما يرفض حزب الاتحاد الديمقراطي الاعتراف بأنه جزء لا يتجزأ من منظمة حزب العمال الكردستاني (PKK) الإرهابية، لا يمكن على المدى البعيد تبرير سلوك الولايات المتحدة الممتنع عن اعتبار حزب الاتحاد الديمقراطي منظمة إرهابية.
ولقد سئم الجميع إصرار الولايات المتحدة الأمريكية على موقفها ذلك بحجة أن حزب الاتحاد الديمقراطي يخوض حرباً ضد داعش. إن أهم تغيير يمكن للإدارة الأمريكية الجديدة أن تأتي به ينبغي أن يكون ترشيد القرارات الراديكالية والهامشية للسياسية الخارجية التي كانت منتهجة من قبل الإدارة السابقة. ويتوجب أن يكون على رأس هذه القرارات قطع العلاقات سريعاً مع منظمة حزب الاتحاد الديمقراطي الإرهابية والتي تقوم في الوقت ذاته بمغازلة كل من إيران وروسيا ونظام بشار الأسد في سوريا.
وأخيرا، تمر العلاقات التركية الأمريكية بمشكلة كبيرة بسبب واحدة من أسخن الأزمات التي تتعرض لها تركيا، وذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية مستمرة في توفير ملجأ آمن لمنظمة إرهابية، ولزعيم تلك المنظمة، التي قامت بتنفيذ محاولة انقلابية دموية في تركيا في الخامس عشر من يوليو (تموز) من عام 2016.
ذلك ببساطة هو تشخيص الشعب التركي لما عليه الوضع الآن. وبسبب هذه الرؤية بالضبط باتت صورة أمريكا في أذهان الناس في أسوأ أحوالها عبر التاريخ. فحتى الآن، لم تتخذ أمريكا ولا حتى خطوة جادة واحدة خلال الشهور السبعة الماضية ضد منظمة فتح الله غولن الإرهابية التي أطلقت المحاولة الانقلابية في الخامس عشر من يوليو (تموز).
ولا غرابة إذن أن يتداول الناس بكثرة ما يروج من نظريات تفيد بتآمر الولايات المتحدة الأمريكية على تركيا، الأمر الذي يعمق الأزمة التي تشهدها العلاقات بين البلدين.
لا يروق للشعب في تركيا الإعلان بشكل مستمر في أمريكا عن إحالة قضية منظمة فتح الله غولن الإرهابية إلى القضاء. لا يمكن بحال تقبل استمرار إقامة زعيم هذه المنظمة الإرهابية، التي تتحمل المسؤولية عن قتل المئات وجرح الآلاف من المدنيين العزل، داخل الولايات المتحدة الأمريكية، وهو الأمر الذي لا يمكن تفهمه لا في ضوء علاقات التحالف بين البلدين ولا ضمن حيثيات القانون الدولي، ولا من حيث الاتفاقية الموقعة بين البلدين والتي تلزمهما بتسليم المطلوبين.
ينبغي على الإدارة الأمريكية، ودونما تأجيل أو تسويف، اعتقال الزعيم فتح الله غولن وتسليمه إلى تركيا ووقف نشاط منظمته الإرهابية داخل الولايات المتحدة الأمريكية فورا.
وبهذا الخصوص لا يوجد نقص في المعلومات ولا في الأدلة المتاحة للجميع، بما في ذلك للقضاء الأمريكي، حول ما جرى بالضبط.
وذلك أنه بعد المحاولة الانقلابية مباشرة، تم تزويد جميع السلطات الأمريكية بالمعلومات المدعومة بالدليل، كما تم التقدم بطلب رسمي بترحيل وتسليم المطلوبين.
فيما لو تقاعست الإدارة الأمريكية عن اتخاذ الخطوات المطلوبة تجاه منظمة فتح الله غولن الإرهابية فسيكون واردا جدا أن تنشأ مشاكل خطيرة في كثير من المجالات ذات الاهتمام المشترك، وعلى رأسها مجال التعاون في الحرب على الإرهاب.
من المتوقع أن تتضح خلال الأيام القادمة ملامح النهج الذي ستتبعه الإدارة الأمريكية الجديدة تجاه منظمة فتح الله غولن الإرهابية وتجاه الوضع في سوريا.
وفي الحالتين، ينبغي ألا يكون التعاون مع تركيا مقتصرا على الوفاء بما ترغب به تركيا ولكن أيضا على الخيارات العقلانية التي تفضلها واشنطن.
إن أي صورة مخالفة لذلك من شأنها أن تسبب انحرافا يضر بالعلاقات بين البلدين ويقوض الشراكة الاستراتيجية القائمة بينهما.