مهما كان من دراية كافية لدينا بما تمر به اليوم مصر العربية، فالوحدة الوطنية تبقى خيار ربما وحيد وبعيد المنال، لكنه ومع ذلك يتطلب منا نظرة جديدة لمفهوم الوحدة الوطنية هذا، الذي قد ينشل البلد من براثن النظام العميق الذي شكل منظومة سياسية واقتصادية تجذرت عميقا خالقة ذاك الجو الداخلي والخارجي من علاقات ظلت تبعد الشعب من مفهومها كمكون أساسي لمصر العربية، اﻷمر الذي قادنا إلى ما نراه اليوم من فساد ومحسوبية وفشل وفقر وفاقة وتخلف -وفناكيش لا حصر لها- رقم قياسي من الفناكيش التي تكاد جميعها أن تعصف بكيان المحروسة أم الدنيا بحاضرها ومستقبلها.
تلك المجموعات التي تدير إقتصاد مصر اﻵن وسياساتها الداخلية والخارجية تثبت دائما أنها ضمن ذاك النظام المتجذر، لكنا نجدها الأشد فشلا بين كل الذين تناوبوا على حكم مصر والسيطرة على مواردها ومقداتها وإخضاع شعبها، فهي ضمن منظومة حالية متهالكة تقوم على محو مكتسبات البلد وموارده بشكل هستيري، اﻷمر الذي ضمن إغراق حتى اﻷجيال القادمة في دوامة الديون التي تمحو أي أمل بالمستقبل، كل ذلك الفشل يعبر عنه النظام الحالي من خلال القمع واﻹذلال وتكميم الأفواه وبناء السجون والتخلي التام عن الشعب الغاضب الذليل واللجوء حتى ﻷعداء اﻷمة كمخلص، لقد صورت تلك اﻷحداث والوعود الكاذبة والمشاريع الفاشلة التي استنزفت المليارات من جيوب الفقراء والمعدمين، صورت للكثيرين بأن هذا النظام سيطر على الحكم أصلا لتنفيذ أجندات اﻷعداء بحذافيرها مستغلا كل دقيقة قبل الطوفان القادم لا محالة!.
رغم أن تلك المليارات التي صرفت على مشاريع كان الهدف اﻷول واﻷخير منها إفتتاحها مع تلك البهرجة ولقطات للشخصيات من اﻷسفل تظهر تلك الهامة المرفوعة واﻷنفة والرفعة التي تعد بمستقبل باهر وتنطلي إلا على اﻷحرار، لكن نظام يعتمد الكذب عامودا أساسيا من أعمدة نظامه، زرع بين الشعب بعبع اﻹخوان من خلال أبواق إعلامية كاذبة كلفت اﻹقتصاد المصري لﻵن في سبيل ذلك ما يوازي تكلفة برنامج فضائي متكامل لبناء مستعمرة على المريخ؛ تلك اﻷبواق وظفت فقط لتبث بين الشعب أن كل من يتحدث عن فشل تلك المشاريع هو إخواني يتربص باﻷمة، وكل من ينتقد النظام هو إخواني، وكل من يتحدث عن الفشل إخواني، وكل من يشكوا من الأحوال الصعبة إخواني، والمسؤول عن إنخفاض مستوى مياه النيل هو إخواني فاتح طول اليوم الحنفية في المطبخ، والمسؤول عن خسارة المنتخب المصري إخواني، والذي يعارض ترامب إخواني، والذي سخر من جهاز الكفتة إخواني، وكل من لا يعتقد بأن أبو المعاطي أعظم علماء عصره فهو إخواني، والذي يعادي إسرائيل إخواني، والذي يقول عن قناة السويس الجديدة تفريعة إخواني رغم أنها تفريعة بالفعل! والذي يقول أنها أفشل مشروع مدني في التاريخ كلف مصر 8 مليارات من الدولارات وأنها لم تجلب تلك المئة مليار دولار سنويا كما وعد النظام وأبواقه اﻹعلامية الكاذبة وأنها كتفريعة لم تضيف على اﻹيراد السنوي للقناة سوى 0.0001 “واحد بالعشر آلاف” من مجمل اﻹيرادات قبل التفريعة فهو إخواني خائن يتربص بمصر ويثبط من عزيمتها، والذي يعتبر بيع الأرض المصرية تحت إشراف صهيوني خيانة فهو إخواني، والذي يعتبر القضاء المصري نزيها حين يحكم بمصرية جزيرتي صفينار وتيران فهو إخواني، لقد قسم اﻹعلام المصري الموجه الكاذب البشرية منذ آدم عليه السلام إلى اﻵن على أنها نوعين: إما بشر عاديون أو بشر إخوان، رغم أن اﻹسلام الذي يعتقد بأن اﻹخوان ينتمون له ظهر في القرن السادس الميلادي! وعندما يرد البشر العاديون غير اﻹخوانيون على هذا الكم الهائل من الفشل فإنهم لا يملكون سوى تلك العبارة “موتوا بغيظكم”.
هناك أدلة دامغة دائما تثبت عدم جدية المسؤولين المصريين بالبحث عن أي حل، فهم إن لم يجدوا بدا من تنفيذ إملاءات البنك الدولي لاستكمال شروط القروض، نجدهم يتخذون قرارات مصيرية بشكل جزافي رغم التحذيرات التي يطلقها خبراء دوليين مخضرمين، مثل قرار تعويم الجنيه الذي اتخذه محافظ البنك المركزي المصري الذي لا يملك لا خبرة ولا تاريخ مصرفي أو اقتصادي أو مالي، هو فقط يملك خبرة في كونه حفيد عبد الحكيم عامر، هذا القرار الجزافي الفردي الذي دمر ما تبقى من اقتصاد، ورفع اﻷسعار بشكل جنوني، وخلق نسب عالية من التضخم وصلت نسبها حسب دراسات غير رسمية -غير حكومية- إلى 50% والتي قضت بدورها على القوة الشرائية للجنيه، اﻷمر الذي أدى إلى زيادة فقر الفقراء وزيادة نسبة الفقر بين الشعب المصري والقضاء على ما تبقى من طبقة وسطى، وأدى إلى إفقار السوق أيضا بالغذاء والدواء والسلع الضرورية ومواد البناء وهروب المستثمرين ورؤوس الأموال وإغلاق المزيد من المصانع والمنشآت وزيادة نسبة البطالة لتصل إلى 13.4% خلال شهر شباط/فبراير الجاري من 2017 مقارنة ب 12.6 في 2016، لقد خرجت عجلة اﻹقتصاد عن السيطرة تماما كمركبة دون سائق تتجه نحو الهاوية، دون الأحقية ﻷحد بالنقد أو التذمر وكأنه أمرا مقدسا يحدث ها هنا، غير أن المبرر الوحيد الذي يملكه النظام وأبواقه اﻹعلامية الكاذبة هو أن البلد تتعرض لمؤامرة كونية لا مثيل لها في التاريخ، وكل من يشكك بتلك المؤامرة هو متآمر ومتخابر مع من يتآمر، وبالطبع فاﻹخوان هم من يقود هذه المؤامرة الكونية الهائلة.
رغم التهليل والتطبيل الذي طبله وهلله اﻹعلام الكاذب بشأن انخفاض سعر صرف الدولار والذي عزا ذلك إلى اﻹصلاحات اﻹقتصادية التي يبدو أنها إصلاحات خفية وغير مرئية البتة، فهي إصلاحات تحدث في الخفاء ربما؟! وهذا ما يظهر كذب المسؤولين الجلي وعجزهم الواضح كما يقول المستشار الإقتصادي الدولي “حسام الشاذلي” (فحقيقة الأمر أن الهبوط المؤقت لسعر الدولار من 20 إلى 16 جنيها ليس إلا نتيجة لظروف إقتصادية معروفة مثل إجازة الصين والتي قللت من الطلب على الدولار، وحالة الركود التضخمي بمصر والتي أدت إلى قلة الطلب على اﻹستيراد نتيجة ركود اﻷسواق، إضافة إلى زيادة استثمارات الأجانب في أذون الخزانة بسبب هبوط سعر الجنيه، وكذلك توقف البنك المركزي عن شراء الدولار، وعوامل أخرى) ويتسائل الشاذلي، لكن أليس وثيقة تمرد التي طالبت بعزل الرئيس محمد مرسي كان أحد أهم أسبابها هو ارتفاع سعر صرف الجنية مقابل الدولار إلى 6.75؟!.
لكن، ما هو مفهوم تلك الوحدة الوطنية الذي نادينا به بداية المقال في خضم هذا الكذب والتدليس والإستهتار والخراب والفشل السياسي واﻹقتصادي والقهر والظلم والقمع؟ هو مفهوم نعني به وحدة كامل الشعب في مواجهة تلك المصائب بحيث تحدث ثورة حقيقة من اﻹصلاح السياسي واﻹقتصادي واﻹعلامي، وهدم السجون التي بنيت خلال الثلاث سنوات اﻷخيرة، وتحطيم تلك البوصلة الغريبة التي حددت على مدار تلك السنوات الأخيرة كلا من الأصدقاء والأعداء وأخرجت مصر نهائيا من ثوب العروبة واﻹسلام، وإعادة تلك البوصلة على أساس عربي إسلامي.
غير أن الحقيقة المرة تخبرنا بأن ذلك صعب المنال وأن مصر على موعد لتكون ربما خارج الحسبة البشرية الحضارية خلال العقود القادمة، فماذا أنتم فاعلون؟.