* الثورة المصرية لا تزال في بداية مسار تاريخي قد يستغرق سنوات عديدة بل عقودًا
* زمن الانتكاسة المضادة للثورة المصرية لن يدوم إلى الأبد
* جميع أسباب الانفجار الأساسية للثورات العربية لا زالت بلا حلّ
* ما حصل في ثورة يناير لم يتعدّ إسقاط رأس جبل الجليد، ومرسي أسهم بالتمهيد لرأس آخر من صلب النظام
* أخطاء الإخوان المسلمين أدت إلى سقوط حكمهم بعد عام فقط من تولّي مرسي الرئاسة
* الدكتاتورية هي التي تولّد الإرهاب وتقود إلى الحرب الأهلية
* خطر الجماعات “الإرهابية” على معارضة الاستبداد أكبر بكثير من خطرها على الاستبداد نفسه
أكد الكاتب والأكاديمي اللبناني جلبير الأشقر أن إشكالية الثورة المصرية الحقيقية أنها تحتاج إلى اصطفاف بين القوى التقدّمية، علمانية أكانت أم إسلامية، في قطب تقدّمي مستقل عن قطبي النظام القديم ومنافسيه.
وتابع الأشقر – في حواره لشبكة “رصد” أن مصر والدول العربية تحتاجان ثورة جذرية تشمل تغييرًا جذريًا للنظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي برمّته، وأن الثورة العربية تبحث عن “بطل جماعي” على شكل ائتلاف واسع للأطراف السياسية والاجتماعية التي تلتقي على برنامج تغيير جذري.
وإلى نص الحوار:
** وصفتم الأحداث المتلاحقة في البلدان العربية أو ما يُعرف بـ”الربيع العربي” بأنها تشكّل “سيرورة ثورية طويلة الأمد”، فهل لنا أن نعرف ما معنى هذا المصطلح؟
– جميع الثورات الكبرى في التاريخ هي في الواقع سيرورات ثورية طويلة الأمد، بمعنى أنها مراحل تاريخية تتميّز بتوتّر عالٍ وتقلّبات متتالية وتعاقب فترات مدّ وجزر، هبّات ثورية وارتدادات مضادة للثورة، انتصارات وانتكاسات.
ولا يخرج المجتمع من النفق الثوري الطويل إلا عندما يستقرّ على حكم جديد مؤاتٍ لعصر تاريخي جديد من التقدّم الاقتصادي والاجتماعي. وهي حال ثورات عظمى كالفرنسية أو الإنجليزية أو الصينية، فالثورة الفرنسية على سبيل المثال لم تقتصر على سقوط سجن الباستيل في 14 يوليو 1789 ولا على الفترة الممتدة من ذلك التاريخ حتى إعلان أول دستور سنة 1791، ولم تنته مع إسقاط الملَكية سنة 1792، بل يرى بعض المؤرخين أنها لم تنته حتى بانقلاب نابوليون بونابرت سنة 1799، بل استمرت عبر محطات تاريخية عديدة كانت أخيرتها كومونة باريس عام 1871.
وقد استقرت فرنسا بعدها على نظام جمهوري برلماني بعد أن شهدت تعاقب أنظمة عدة: ملَكية دستورية، وجمهورية ثورية وإمبراطورية، واستعادة الملَكية المطلقة، وملَكية دستورية ثانية، وجمهورية ثانية، وإمبراطورية ثانية، طوال ما يناهز قرنًا من الزمن.
وكذلك لم تنته الثورة المصرية بسقوط حسني مبارك يوم 11 فبراير 2011 ولا بأي من التغييرات الدستورية التي تلت، ولا بوصول محمد مرسي إلى الرئاسة ولا بإسقاطه وصعود عبد الفتّاح السيسي إلى الحكم، بل لا تزال في بداية مسار تاريخي قد يستغرق سنوات عديدة بل عقودًا.
ولن تصل مصر إلى شاطئ أمان إلا عندما تستقر فيها الأمور على نظام سياسي واجتماعي جديد يتيح لها السير مجددًا على طريق التقدّم الاجتماعي والاقتصادي. ومن الأحرى أن ينطبق هذا التحليل على ما أسمي “الربيع العربي” برمّته، وهو لا يعدو كونه محطة أولى في سيرورة إقليمية من الأجدر تسميتها “الثورة العربية”، أشعلها الشاب التونسي محمد البوعزيزي بإشعال نفسه يوم 17 ديسمبر 2010 وقد شهدت حتى الآن محطات مختلفة في بلدان شتى من المحيط إلى الخليج.
وقد انتقلت المنطقة من نشوة المدّ الثوري الأول الذي بلغ ذروته خلال العام 2011 إلى كآبة زمن الانتكاسة المضادة للثورة الذي لا زلنا نعيش فيه، والذي مهما طال لن يدوم إلى الأبد وسوف تعقبه بالضرورة موجات ثورية أخرى حتى يحلّ محلّ النظام العربي القديم نظامٌ جديد يتيح لهذه المنطقة أن ترتقي إلى حالة تليق بعصرنا.
** ما الأسباب التي أدّت إلى اندلاع ما يُعرف بأحداث الربيع العربي في الدول العربية وبالأخص مصر؟ وهل ما زالت هذه الأسباب قائمة إلى الآن؟
– الأسباب الكامنة وراء انفجار بركان الثورة العربية هي في المقام الأول أسباب اقتصادية واجتماعية، تتمثّل في كون المنطقة العربية قد شهدت على مدى عدة عقود معدّلات النمو الاقتصادي الأكثر انخفاضًا مقارنة بكافة مناطق آسيا وأفريقيا، وشهدت بالتوازي مع ذلك معدّلات البطالة الأكثر ارتفاعًا بين جميع مناطق العالم، ولا سيما بطالة الشباب.
ومما يؤكد هذا التقدير أن البلدين اللذين انفجر فيهما البركان قبل غيرهما، أي تونس ومصر، هما بلدان شهدا صعودًا ملحوظًا للنضالات الاجتماعية خلال السنوات الممهّدة للـ”الربيع العربي”، وبالأخص دورًا رائدًا للحركة العمّالية في تلك النضالات. فالانفجار الثوري سببه الأول انسداد آفاق التنمية بكافة أبعادها في المنطقة العربية، ولن تنته السيرورة الثورية العربية طويلة المدى سوى بحلول نظام إقليمي جديد يتيح لتلك التنمية أن تنطلق من جديد بعد عقود من الانحباس.
فجميع أسباب الانفجار الأساسية لا زالت بلا حلّ، بل تفاقمت إلى حدّ بعيد بتفاقم الظروف الاقتصادية والاجتماعية على خلفية التوتّرات السياسية الشديدة التي تعصف بمنطقتنا.
** أكدتم عدة مرات أن الدولة العميقة لم يتم الإطاحة بها بعد 25 يناير، وحتى بعد إطاحة مرسي بطنطاوي وعنان.. برأيك، كيف يمكن القضاء على هذه الأجهزة المتجذرة في الجسد البيروقراطي للدولة المصرية والرافضة لأي تغيير قد يطول امتيازاتها؟
– أولًا، لا بدّ من الإشارة إلى أن ما نراه في بلد كمصر وفي معظم البلدان العربية ليس “دولة عميقة” على طريقة ما أُطلقت هذه التسمية عليه قبل سنوات في تركيا (وقد أتت التسمية من هناك)، وكان يتمثّل في شبكة سرّية تجمع مخابرات الدولة وأجهزة المافيا.
أما في معظم بلدان منطقتنا، فلا تحتاج المخابرات إلى إخفاء التحامها بمرادف المافيا لدينا، ألا وهو أخطبوط رأسمالية المحاسيب الذي يخنق شعوبنا ويمتص دماءها. والحقيقة أن ما حصل في مصر في 11 فبراير 2011 لم يتعدّ إسقاط رأس جبل الجليد، ولم تكن رئاسة محمد مرسي سوى تركيب لرأس جديد على جبل الجليد ذاته، رأس جديد ما لبث أن أُسقط بدوره حتى أفرز جبل الجليد رأسًا آخر من صلبه، كان مرسي نفسه قد أسهم بالتمهيد له.
ولا يمكن التخلّص من جبل الجليد سوى بتفكيكه، أي بتفكيك الطوق الدكتاتوري والبيروقراطي الذي يجمعه ويصونه. وهذا لن يتم سوى عندما تتمكّن قوى الثورة أن تكسب إلى صفوفها أبناء قوى الشعب العامل الذين يخدمون في جسد الدولة، وعلى الأخص في عمودها الفقري العسكري والأمني.
** يتحدث البعض الآن عن سيناريو انفجار شعبي غير مؤدلج يأتي على الأخضر واليابس، ما هي احتمالات حدوث ذلك؟
– هذا سيناريو لا يمكن قط استبعاده ليس في مصر وحسب بل في كافة بلدان المنطقة العربية. وما يجعل احتماله واردًا هو أن بركان الثورة في حالة اشتعال والظروف الاجتماعية تزداد سوءًا باطّراد، لكن لا وجود لقيادات ثورية بمستوى هذا التحدّي التاريخي العظيم.
إنها معضلة الثورة العربية: “دور يبحث عن بطل” كما قال جمال عبد الناصر في “فلسفة الثورة”، غير أننا لم نعد في زمن “الأبطال” الفرادى والزعماء الأوحدين بل بات “الدور” يبحث عن “بطل جماعي” على شكل ائتلاف واسع للأطراف السياسية والاجتماعية التي تلتقي على برنامج تغيير جذري يقوم على درجة عليا من الديمقراطية تضمن الرقابة الشعبية الدائمة على الحكام وتكفل الحريات السياسية والثقافية والمساواة بين الجنسين كما يقوم على العلمنة بمعنى فصل الدين عن الدولة وفصل الدولة عن الدين (وغالبًا ما يتناسى نقّاد العلمنة أنها لا تعني فقط وقف زجّ الدين في شؤون الدولة بل تعني أيضًا وقف تسخير الدولة للدين وتدخّلها في شؤون العبادة)، برنامج يقوم على حشد الدولة للطاقة الإنتاجية وإدارة الدولة لدفّة الاقتصاد بما يخدم التنمية البشرية بأبعادها الثلاثة، ألا وهي التنمية الاقتصادية والصحة والتعليم، ويؤمّن التشغيل والضمانات الاجتماعية.
** ما الأخطاء التي وقعت فيها جماعة الإخوان المسلمين أثناء وجودهم في السلطة؟
– الخطأ الأساسي هو أنهم نسوا أن محمد مرسي، الذي حصل على 5.7 ملايين من الأصوات في الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية في عام 2012، تم انتخابه رئيسًا للبلاد في الدورة الثانية بحصوله على 13.2 مليونًا، أي أنه وصل إلى الرئاسة بفضل كتلة من الناخبين لم تصوّت له في الدورة الأولى أغلبيتهم، التي ناهزت 60 بالمئة منهم، أي أن هؤلاء كانوا يفضّلون غير الإخوان المسلمين لكنّهم انتخبوا مرسي في الدورة الثانية لقطع الطريق أمام أحمد شفيق الذي رأوا فيه مرشح النظام القديم.
فبدلًا من أن تأخذ الجماعة هذا التفويض المحدود جدًا بالحسبان وتسعى وراء تشكيل أوسع ائتلاف في الحكم والتأكد من تحقيق أوسع اتفاق ممكن بين القوى الرافضة للنظام القديم التي حملت محمد مرسي إلى الرئاسة، حكمت وكأنها تعمل بتفويض جاءها من السماء وسلكت سلوكًا أقنع غالبية الشعب المصري الساحقة أن الجماعة تطمح إلى الاستفراد بالسلطة و”أخونة” الدولة..
هذا النهج، مضافًا إلى تقمّص مرسي قميص مبارك بتعاونه مع محاسيب النظام القديم، ومواصلته للسياسة الاقتصادية النيوليبرالية ذاتها التي ولّدت الأزمة، هو ما أدّى إلى سقوط حكم الإخوان المسلمين بعد عام فقط من تولّي مرسي الرئاسة.
** بين الحين والآخر يكثر الحديث عن اصطفاف بين القوى الإسلامية والمدنية، كيف يمكن بناء هذا الاصطفاف وما الأسس التي يمكن الارتكاز عليها؟
– لا أرى أن الإشكال هو مسألة اصطفاف بين القوى الإسلامية والمدنية. والتعبير خاطئ بالأصل؛ أما الأصح فهو الحديث عن القوى السياسية-الدينية والعلمانية، فلا القوى الإسلامية قوى غير مدنية (بل هي قوى مدنية بمعظمها لا يشكّل العسكريون ورجال الدين سوى أقلية في صفوفها) ولا القوى العلمانية قوى غير إسلامية بالضرورة (هل نسينا إشادة الإسلامي رجب طيب أردوغان بالعلمانية عندما زار القاهرة إثر ثورة 25 يناير؟)..
والحال أن الإشكال ليس مسألة اصطفاف بين القوى السياسية-الدينية والعلمانية، بل مسألة اصطفاف بين القوى التقدّمية، علمانية أكانت أم إسلامية، في قطب تقدّمي مستقل عن قطبي النظام القديم ومنافسيه الذين يطمحون إلى تلبيسه لباسًا إسلاميًا، وليس إلى تغييره جذريًا في الاتجاه الذي وصفته قبل قليل.
** ما الدول المشابهة للحالة المصرية وكيف انتقلت إلى الديمقراطية دون تفكيك الدولة بشكل جذري؟
– ليس هناك من دول مشابهة للحالة المصرية انتقلت إلى الديمقراطية بطريقة إصلاحية؛ فإما هي دول أحرزت مثل هذا الانتقال لكنها شديدة الاختلاف عن الحالة المصرية، أو هي دول مشابهة للحالة المصرية لكنها لم تحرز مثل هذا الانتقال.
ولتوضيح ما أقول فإن الدول التي حققت انتقالًا ديمقراطيًا سلسًا نسبيًا كالبرازيل وكوريا الجنوبية وتركيا (بصرف النظر عن المنعطف السلطوي الحديث في هذه الأخيرة) إنما هي دول جاء فيها التحوّل إثر حقبة مديدة من التنمية الاقتصادية والتصنيع بوتائر سريعة خلقت أساسًا اجتماعيًا قويًا لانتقال ديمقراطي لم يغيّر بناها الاجتماعية والاقتصادية.
أما في مصر وسائر الدول العربية فنحن أمام بُنى اجتماعية تشلّ التنمية الاقتصادية منذ وقت طويل ولا بدّ من تكنيسها بثورة جذرية تتعدّى “الانتقال الديمقراطي” لتشمل تغييرًا جذريًا للنظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي برمّته.
هذا ولا بدّ من توضيح أن هذا التغيير الجذري لا يشترط تفكيك الدولة برمّتها بل فقط أجهزتها القمعية المشرفة على صيانة النظام القائم، كما كانت ثورة 25 يناير قد بدأت تفعل بأجهزة أمن الدولة لكنّها وقفت في منتصف الطريق. وكما قال سان جوست، أحد زعماء الثورة الفرنسية: “إن الذين يقفون بالثورات عند نصفها لم يفعلوا سوى حفر قبر لأنفسهم”.
** هل أثّر ما يوصف بـ”القمع الشديد” في مصر وخاصة الموجه للإسلاميين إلى زيادة فرص تطرف شبابهم؟ وكيف يمكن تجنب ذلك؟
– لا شكّ في أن عنف الظالم من شأنه أن يوّلد عنف المظلوم، وإرهاب الدولة يوّلد الإرهاب المقابل لدى الذين يعانون منه، بحيث تغذّي همجية السلطة همجية مضادة تترعرع في صفوف خصومها. والمثال الأقوى والأفظع عن هذه الجدلية الفتّاكة إنما هو ما جرى في الساحة السورية حيث أدّى بطش النظام السفّاح إلى تغذية الجنوح إلى التطرّف في الجهة المقابلة، بما أتاح لتنظيمي القاعدة و”تنظيم الدولة” أن ينمُوَا ويسيطران على مساحات شاسعة.
وهنا يكمن مأزق المنطق الدكتاتوري الذي يخاطب شعوبنا قائلًا: “إما الدكتاتورية أو الإرهاب والفوضى المسلّحة”. والحقيقة أن الدكتاتورية هي التي تولّد الإرهاب وتقود إلى الحرب الأهلية.
أما الشق الثاني من الصورة فهو مسؤولية قوى المعارضة الرافضة للإرهاب: فلا شكّ أن تأخر المعارضة السورية في التصدّي لمنظمة القاعدة في سوريا (جبهة النصرة) كان عاملًا مهمًا في تمكّن هذه الأخيرة من تثبيت نفسها على الأرض.
والاعتقاد أن الجماعات الإرهابية يمكن أن تشكّل رافدًا من روافد النضال ضد الاستبداد إنما هو اعتقاد أحمق وقاتل، فمثل هذه الجماعات تمنح الاستبداد أقوى الحجج لتبرير بطشه في نظر قسم واسع من المجتمع المحلّي والدولي، والحالة السورية مرة أخرى أسطع مثال لذلك؛ إن خطر الجماعات “الإرهابية” على معارضة الاستبداد أكبر بكثير من خطرها على الاستبداد نفسه.
……………………………..
جلبير الأشقر: كاتب وأكاديمي لبناني، يعمل أستاذًا لدراسات التنمية والعلاقات الدولية بكلية الدراسات الأفريقية والشرقية بجامعة لندن، صدرت له عدة مؤلفات، منها: صدام الهمجيات، والشرق الملتهب، والعرب والمحرقة النازية، والشعب يريد، وانتكاسة الانتفاضة العربية: أعراض مرضية.