“الوطنية هي الملاذ الأخير لكل نذل” (صامويل جونسون- كاتب وشاعر إنجليزي)
في خضم فيلم وثائقي عُرض في نيويورك الشهر الماضي، قام ضباط يهود بدعوة عدد من الضباط المصريين في أثناء حرب 1948، على الغداء، وكان من بين الضباط اليهود إسحق رابين (رئيس الوزراء الصهيوني لاحقا) ومن بين الضباط المصريين جمال عبد الناصر (الرئيس المصري بعدئذ). وبحسب الفيلم الوثائقي فإن ناصر قال لرابين: “أعتقد أننا نخوض المعركة الخطأ ضد العدو الخطأ”
وينقل الفيلم عن رابين (وفق مقابلة سجلت معه في عام 1984) أنه كان يعتقد أن إطاحة عبد الناصر بالملكية ستمكن من إحلال السلام بين العرب والإسرائيليين!
***
من البديهي أن إسرائيل استغلت القوى الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة، كي تخرج إلى العلن، بشكل مباشر عن طريق المساعدات الأميركية المالية والعسكرية، أو عن طريق تنصيب قيادات من “النوع المطلوب” على رأس الدول العربية المحيطة بإسرائيل (طول الطوق) عن طريق انقلابات عسكرية رعتها ومولتها ونفذتها المخابرات الأميركية! (كما تتضح الفضائح في المعلومات التي تنشر تباعا)
في المقابل فإن الغرب كان يرى في إسرائيل وسيلة للسيطرة على المنطقة، بنفطها، وثرواتها، وموقعها الجيو استراتيجي، وكانت إسرائيل بالنسبة إليه قاعدة متقدمة، تقوم بمالا تريد أميركا القيام به، وبكلفة أقل، دون الحاجة إلى إرسال الحنود الأمريكان بأنفسهم طالما أمكن ذلك! وحين تكون هناك مهمة أكبر من قدر إسرائيل، يقوم السيد الأميركي نفسه بالمهمة، كما حدث في احتلال العراق في 2003، ومن البديهي أيضا أن إسرائيل كانت من أوائل المستفيدين!
العلاقة إذن كانت علاقة مصالح متبادلة بين إسرائيل والغرب، وكان الغرب كتلة واحدة في هذا الشأن، فلا أحد يعترض على فكرة دعم إسرائيل، لكن الآن هناك خلاف على طريقة تقديم هذا الدعم!
***
هناك فريقان في الغرب؛ فريق مخضرم؛ يرى أن إسرائيل لا تستطيع العيش وسط 300 مليون عربي بدون “السلام” معهم، وأن أفضل ما تستطيع “إسرائيل” الحصول عليه هو اتفاقيات سلام مع جيرانها تبقيها متوفقة تكنولوجيا وعسكريا.
يعتقد هؤلاء أن يوم توقيع اتفاقية كامب ديفيد (1979) كان أكثر أهمية لإسرائيل من حرب التأسيس (نكبة 1948) أو حرب التمدد (نكبة 1967).
وهذا الفريق، والذي أسميته في مقال سابق “الغرب الأوسط” يرى أن الاستطيان في الضفة الغربية يجهض حل الدولتين، ويجعله غير قابل للحياة، وأن هذا ليس في صالح إسرائيل!
من هذا الفريق إدارة أوباما التي قامت بتمرير قرار مجلس الأمن الأخير والذي يدين الاستطيان، وكذلك عقد مؤتمر باريس للسلام، للتأكيد على أن نقل السفارة الأميركية للقدس أكبر هدية للمتطرفين (أصحاب مشروع المقاومة) بحسب ما قال وزير خارجة فرنسا.
***
أما الفريق الآخر “الغرب الأقصى” فهو يؤيد الاستيطان في الضفة الغربية، الأمر الذي يؤدي إلى قيام “إسرائيل الكبرى” كما جاء في سفر التكوين الإصحاح 15 الآية 18-19.
وهذا الفريق يتحرك من أجندة دينية توراتية، ترى أن الوقت قد حان للخروج من العباءة الأميركية التقليدية، التي ترى أن حل الدولتين هو أفضل ما يمكن أن تحصل عليه إسرائيل، إلى حل الدولة الإسرائيلية الواحدة الموحدة، من الفرات إلى النيل!
وهذا الفريق له أنصار في جميع الدول المؤثرة، ويسعى إلى إيصالهم إلى السلطة عبر الانتخابات بأي ثمن، وإلى هذا الفريق ينتمي تيار الأحزاب الدينية داخل الكيان الإسرائيلي نفسه، والذي يتحالف مع نتنياهو في الحكومة مؤقتا، لكنه قد يسعى للإطاحة به لأنه ليس جريئا بما فيه الكفاية!
وينتمي إلى هذا المعسكر كذلك قائد الانقلاب العسكري في مصر؛ السيسي، الذي وصل إلى الحكم بدعم إسرائيلي واضح، ودعى علانية إلى سلام دافئ مع إسرائيل، وتعهد بالدفاع عن أمنها، وهاجم النصوص المقدسة، وكذلك ترامب الذي أعلن أن أولى أولوياته نقل السفارة الأميركية للقدس، وكذلك اليمين المتطرف في فرنسا والنمسا وألمانيا وهولندا…إلخ. وكلها أحزاب قريبة من الفوز في الانتخابات في بلدانهم إن عاجلا أم آجلا؛ مستغلا هجمات تنظيم داعش، وتوظيف توقيتها في أماكن بعينها قبيل الانتخابات، لترهيب الناس، ودفعهم للتصويت نحو اليمين المتطرف ولبث الكراهية ضد المسلمين عموما واللاجئين خصوصا!
***
هناك صراع قوي في الغرب إذن، وانقسام غير مسبوق؛ بين فريقين مختلفين حول ما هو الأفضل للغرب، والأفضل للعالم، والأفضل لإسرائيل!
الفريق التقليدي الذي يريد التوحد السياسي والاقتصادي للغرب، وحزن لخروج بريطانيا، ويدعو إلى عدم هدم صنم الديمقراطية، والتفرقة بين الرغبة في القضاء على الدول الإسلامية ونهب ثرواتها، وبين وجوب التعامل بالمساواة مع الأقليات المسلمة في الدول الغربية، والتمسك بحد أدنى من حقوق الإنسان، ولو ظاهريا، بشكل لا يتسبب في تمزيق هذه الدول من الداخل!
والفريق الجديد الذي أسميه أيضا اللوبي الجديد؛ والذي يريد التفكك السياسي والاقتصادي للغرب، ويرى، أوبالأحرى “يريد”، أن خروج بريطانيا من الاتحاد مجرد بداية، بحسبما صرح ترامب نفسه، وهو أيضا نفس ما قاله المرشح لشغل منصب سفير أميركا لدى الاتحاد الأوربي في أول تصريح له.
وهذا الفريق يريد تفكيك حلف النيتو، أقوى حلف عسكري في التاريخ، والذي يراه ترامب منظمة عفا عليها الزمن ويرى أن استقبال ألمانيا للاجئين قرار خاطئ، ويمنع مواطني 7 دول إسلامية من الدخول لأميركا، ويريد فرض دولة إسرائيل بالقوة، فلا عجب أن قررت إسرائيل إنشاء 6 آلاف وحدة استيطانية جديدة في الضفة الغربية بعد فوز ترامب!
والغريب أن سمات هذا الفريق واحدة تقريبا، فجميعهم يتبنون خطابا شعوبيا، يعلي من الوطنية الباطلة التي تدهس حقوق الغير وتصف المعارضين بالخيانة، لتعزيز الانفصال بين هذه الدول، وهو خطاب يكرس العنصرية تجاه المسلمين خصوصا، ويتبنى الكذب في كل شيء. لذلك قر ترامب تعديل اسم برنامجه من محاربة الأيديولوجيات المتطرفة إلى “محاربة التشدد الإسلامي” فقط! أي أن الإسلام هو المقصود يا سادة!
وليس غريبا أن يستقبل ترامب أول من يستقبل رئيسة وزراء بريطانيا، الخارجة من الاتحاد الأوربي قريبا، وأن يلتقي بكل من نتنياهو والسيسي هذا الشهر، وأن ينسق هذا التحالف الجديد مع بوتين، المستفيد بشكل رئيسي من انهيار المنظومة الغربية وتفكك الاتحاد الأوربي وإضعاف حلف النيتو!
وليس غريبا أن يظهر هذا الفريق العداء لإدارة أوباما وهيلاري واتهامهم بشتى الاتهامات، منها دعم الإخوان، في مقابل تسريبات عن تغلغل إسرائيل في الغرب (مثل فيلم الجزيرة عن دور اللوبي الصهويني في بريطانيا) والذي حاول لفت الانتباه إلى الخطر الذي يشكله هذا الفريق على الغرب ذاته!
من الأمور الطريفة التي تظهر تشابه عقلية هذا الفريق؛ أن وزارة الدفاع الأميركية عرضت فيديو لعملية الإنزال الأخيرة في اليمن، لكن الفيديو يعود لعام 2007؛ وعرفه اليمنيون على الفور! وتشير وكالة “تاس” للأنباء إلى أن وزارة الدفاع الأمريكية أزالت هذه المواد على الفور، وألغت مؤتمرا صحفيا عبر الهاتف كان مخصصا للحديث عن المداهمة. والغريب أن المتحدث العسكري السابق في مصر عرض في السابق صورا على أنها ضربات لإرهابيين في سيناء، بينما أظهرت إحداثيات الصور أن الموقع المستهدف كان في الصحراء الغربية قرب ليبيا!
***
إن الأحداث السياسية تؤكد صدق الآيات والأحاديث القرآنية التي أكدت أن الساعة لن تقوم حتى يأتي اليهود من جميع بقاع الأرض، وحتى يقاتل المسلمين اليهود. لكن هل يسكت الفريق التقليدي في الغرب على ما يقوم به الفريق الاستيطاني؟؟
إن استمرار هذا الفريق في نهجه ستؤدي إلى أن يصير الغرب في خدمة إسرائيل، بعد أن كانت إسرائيل في خدمة الغرب، ولا شك أن الدولة العميقة في أميركا تدرك مآلات ذلك، لكنها بين خيارين أحلاهما مر، إما القبول بالديمقراطية التي بشروا بها لقرون، والقبول من ثم بتفكك الغرب، أو الانقلاب – ولو بشكل دستوري – على نتائج الديمقراطية (بما يعنيه هذا من سقوط للحضارة الغربية وقيمها)، بعرقلة خروج بريطانيا من الاتحاد باي ثمن، والانقلاب على ترامب دستوريا بأي طريقة، وهو ما بدأت دوائر كثيرة في أميركا تبحث عن وسائل له من الآن، لكن لهذا حديث آخر إن شاء الله!
صفحة الكاتب على فيسبوك: د. أحمد نصار