كان ذلك في منتصف إبريل/ نيسان من العام الماضي، حين دعيت من جامعة نيويورك للحديث، في محاضرة مغلقة، عن السنة التي تولى فيها الرئيس محمد مرسي حكم مصر.
سريعاً جداً، حصلت على تأشيرة دخول الولايات المتحدة الأميركية، مدة خمس سنوات، وسافرت من الدوحة إلى برشلونة، ترانزيت ساعتين، ومنها إلى نيويورك، في رحلة استغرقت نحو 16 ساعة طيران. قدمت جواز السفر للموظف المختص في مطار جي إف كيندي.
سألني عن سبب الزيارة، فأجبت: دعوة من جامعة نيويورك للحديث في الحالة السياسية المصرية. وسريعاً وضع ختم الدخول على الباسبور، ثم قال بأدب: سنأخذ من وقتك دقائق للمرور على مكتب الأمن، فابتسمت ومضيت معه.
في المكتب، كان ضابط يرتدي الزي الرسمي. أخرج ورقة وقلماً وطلب مني أن أكتب بريدي الإلكتروني وحساباتي على “فيسبوك” و”تويتر”، وكل ما استخدمه من وسائل التواصل الاجتماعي، ثم طلب مني تسليم جهازي الموبايل وآيباد، فسألت: هل هناك مشكلة أمنية أو سياسية في دخولي تستدعي ذلك كله؟ قال إن هذا إجراء اعتيادي.
ثم بدأ يوجه أسئلة تتعلق بتوجهاتي ومواقفي السياسية، بلهجة فيها كثير من الفطاظة، تصل إلى حد الوقاحة، امتدت معها الدقائق نحو تسع ساعات، كانت تحقيقاً سياسياً معي أصعب كثيراً من تحقيقات أمن الدولة في مصر، حيث كانت العدائية واضحةً في أسئلة المحقق، وطريقة استقباله الردود، وكأنه يردّد ما يسمعه في الإعلام الحكومي المصري، من عينة “إنت إخوان” والجريدة التي تكتب بها إخوان، ثم يضيف إلى سخافة المعاملة محاولة تسفيه موقفك السياسي، حين يسألك عن سبب الزيارة، فتقول للحديث عن السنة التي تولى فيها الدكتور محمد مرسي الرئاسة، معلنا بوضوح إنه ضد مرسي، ومع النظام الجديد في مصر.
كان الضابط كروجر، كما لمحت اسمه، يفتش في هاتفي الشخصي وجهاز آيباد، ويتصفّح بريدي وحساباتي على “السوشيال ميديا”، وكلما لمح صورة أو شارة رابعة العدوية، في بروفايل أحد الأصدقاء، يمعن في إظهار مزيدٍ من العدائية والوقاحة أحياناً، حتى إنني، في لحظةٍ، قلت له إنني لا أريد دخول أميركا، وأفضّل العودة إلى حيث أتيت، وإن كان هناك اتهامٌ ضدي فليواجهني به، ويتخذ إجراءاته الرسمية.
كان رد المحقق إنه لا يوجد اتهام، لكنه لن يدعني أدخل حتى تأتيه الردود من جهات عدة، على ما رفعه إليها من حصيلة التحقيق معي.
وهنا كانت قد مرّت نحو سبع ساعات في المطار، لم أتناول طعاماً، أو كوباً من المياه، فقلت له إنني منذ 15 ساعة لم أشرب أو آكل، فرد: أنا أيضاً لم أتناول غدائي، ثم أخرج طعامه من درج مكتبه، وأخذ يأكل، وحده، مبرّراً ذلك بأن يتناول طعاماً خاص بنظام غذائي قاسً، لا يصلح لي. وعلى مضضٍ سمح لي بالخروج للحصول على زجاجة مياه.
نسيت أن أقول إن المحقق أعطى لنفسه حق استقبال مكالمات المتصلين على هاتفي، إذ كان يحاول اقتناص معلومات من محادثة المتصلين بي.
وحين قلت له إن هذا اعتداء على حياتي الشخصية، لا أظن أن القانون الأميركي يسمح به، وأيضاً هذه يرهق فاتورة هاتفي باستقبال المكالمات الدولية، قال لي إنه يمكن أن يسمح لي باستخدام هاتفه المكتبي للاتصال بمن أريد داخل الولايات المتحدة.
بالفعل، اتصلت بالسيدة سارا لي ويتسون التي وجهت لي الدعوة، وأخبرتها بما جرى ويجري معي، فطلبت التحدث مع المحقق، وسألته عن سبب استيقافي، ومتى ينتهي، أجاب بأنه في انتظار مكالمةٍ أخيرة، من جهةٍ ما، يقرّر بعدها.
دخلنا في فترة صمت، قطعتها بسؤال المحقق: هل لديك ما يدينني، أو يجعل زيارتي خطراً على أميركا؟ أخبرني بأنه يشتغل على ملفي قبل أن أستقل الطائرة من الدوحة.
وعلمت، فيما بعد، أن البلاغ المقدّم لمنعي من دخول أميركا من النوع الثقيل، إذ لم تكن الحكومة المصرية وحدها مشاركة في البلاغ، وإنما جهات ولوبيات أخرى.
ما لفت نظري في شخصية المحقق، ذي الملامح المتوسطية، أنه كان يصرّ على إظهار موقفٍ سياسيٍّ من خلال الأسئلة، إذ كان يكرّر، طوال الوقت، مفردات “الإخوان – رابعة”، متحدثاً عن “رابعة” وكأنها منظمة سياسية، أو جماعة أو تنظيم.
وكان ردي أنها إشارة أو رمز يضعه كثيرون حول العالم، تعبيرا عن انحياز إنساني بالأساس، وليس انحيازا سياسيا لفصيل سياسي أو تيار أو حزب، غير أن الواضح أن الضابط كان معبأ بتصوراتٍ ومواقف مسبقة، لا يريد أن يحيد عنها.
أخيراً، قال لي المحقق إنه أنهى مهمته، وسنتوجه الآن لأخذ حقائبي، وأصرّ على مرافقتي إلى باب الخروج المطار، بعد تسع ساعات من الأسئلة والإجابات، في مكتب صغير، بمواجهة محقق كان الانطباع الأساسي عنه أنه مجرّد صدى لصوت دونالد ترامب، واليمين العنصري، في بدايات ظهوره في سباق الانتخابات الأميركية.
في كل المناسبات التي تحدثت فيها في أثناء هذه الزيارة، الأولى والأخيرة، للولايات المتحدة، عمّا جرى معي في المطار، ووجدت أميركيين، إنسانيين ورائعين، يعتذرون لي، ويظهرون كل الود والترحيب، كالذين تراهم ينتصرون للإنسانية وللحق في الحياة، في تظاهرات عارمة في المطارات والولايات الآن.
في طريق العودة، حظيت في المطار بحفاوة أقل من حفاوة المحقق “ترامب الصغير”، إذ تم تفتيش متعلقاتي الشخصية، على نحو مختلف عما تم مع مرافقي في الرحلة، وكانت النهاية الدرامية بعد العودة من الولايات المتحدة، حيث تلقيت رسالةً إلكترونية من القنصلية الأميركية في الدوحة، لإبلاغي بإلغاء تأشيرة دخولي التي تبلغ خمس سنوات.
لست حزينا على إلغاء التأشيرة، ولست متحمسا للتقدّم بطلب الحصول على واحدةٍ جديدة، كما أبلغت من القنصلية الأميركية فيما بعد. السؤال الآن: ما الفرق بين إدارة ترامب ونظام الحكم في كوريا الشمالية؟!