منذ يونيو 2014، انطلق الجيش المصري في فورة إنفاق هائلة. فقد بلغت قيمة اتفاقات نقل الأسلحة التي وقّعتها مصر في العام 2015، 11.9 مليار دولار أميركي، لتحتل بذلك المرتبة الثانية بين البلدان النامية. ويشمل هذا المبلغ 5.9 مليارات دولار من فرنسا في إطار صفقة لتزويد مصر بـ24 مقاتلة “رافال”، و1.1 مليار دولار لتزويدها بحاملتَي طائرات من طراز “ميسترال”، ووجهة استعمالها الأساسية هي الإنزال البرمائي والعمليات الهجومية. في العام 2016، وقّعت مصر وفرنسا اتفاقاً إضافياً بقيمة 1.1 مليار دولار لتزويد مصر بالطائرات والسفن وبمنظومة للتواصل عبر الأقمار الصناعية العسكرية. وفي كانون الثاني/يناير 2016، أبرمت مصر اتفاقاً للحصول على 46 مروحية هجومية من روسيا استكمالاً لحاملتَي ميسترال.
غير أن أنواع الأسلحة التي تم شراؤها لا تبدو مناسبة لرفع التحديات الأمنية الداخلية أو الخارجية التي تواجهها البلاد، كما أنها لا تتلاءم مع أهدافها في السياسة الخارجية. فالجزء الأكبر من المشتريات يتألف من مقاتلات ومروحيات هجومية وحاملات متعددة الأغراض تُستخدَم تقليدياً لإظهار القوة أو تنفيذ عمليات هجومية. وهذا يطرح تساؤلات حول ما إذا كانت الدولة تتوقع نشوب نزاع داخلي على الطريقة السورية.
يجسّد الإنفاق العسكري الأخير زيادة كبيرة بالمقارنة مع الأعوام السابقة. على سبيل المثال، وفقاً لمعهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام، بلغ معدّل مجموع الصفقات الدولية لنقل الأسلحة إلى مصر (بالاستناد إلى الأسعار الثابتة في العام 1990) 611 مليون دولار في السنة بين العامَين 2000 و2013 – لكن أُنفِق مبلغ 1.47 مليار دولار إضافي في العام 2015 فقط، أو 32 في المئة من مجموع قيمة اتفاقات نقل الأسلحة العسكرية منذ العام 2008. وخُصِّص الجزء الأكبر من هذه المبالغ للطائرات ذات الأجنحة الثابتة والسفن (لا سيما حاملات الطائرات).
التهديدات التي تواجهها مصر على مستوى الأمن الداخلي والخارجي لا تقدّم أسباباً واضحة تبرّر هذه الأنواع من المشتريات. على الحدود الشرقية، بلغت مصر مستوى تاريخياً من التعاون الديبلوماسي والأمني مع إسرائيل. في 22 كانون الأول/ديسمبر الماضي مثلاً، أرجأت مصر تصويتاً على قرار اقترحته في مجلس الأمن الدولي كان من شأنه أن يطالب إسرائيل بوقف بناء المستوطنات في الأراضي المحتلة، وقد عمدت مصر إلى إرجائه عندما بات واضحاً أن الولايات المتحدة لن تستخدم حق النقض (الفيتو) لإسقاط مشروع القرار.
وفي أيار/مايو 2016، عيّنت مصر أحمد أبو الغيط، المعروف في المنطقة بـ”صديق إسرائيل”، أميناً عاماً لجامعة الدول العربية. أما على الجبهة الأمنية، وإلى جانب التعاون المصري-الإسرائيلي في فرض حصار على قطاع غزة، فقد سمحت إسرائيل لمصر باستخدام الهجمات الجوية والأسلحة الثقيلة لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية في سيناء، ما يشكّل تقنياً انتهاكاً لاتفاقات كمب ديفيد.
على الحدود الغربية، أتاح الفراغ في السلطة في ليبيا لعدد من المجموعات المسلّحة، بما فيها الدولة الإسلامية، بالانتشار، ما قد يُهدّد في نهاية المطاف الأمن المصري. لكن، ما عدا السماح للمقاتلات الإماراتية باستخدام القواعد الجوية المصرية لشنّ غارات جوية في ليبيا – ومبادرة مصر إلى شنّ هجمات جوية بنفسها رداً على إعدام عدد من المصريين الأقباط – حافظت مصر على مسافة من الصراع في ليبيا. قدّم السيسي دعماً معنوياً وديبلوماسياً لحفتر، لكنه اعتبر أن التدخل المباشر “محفوف بالمخاطر“. وعلى النقيض من سيناء، لم يظهر تمرد متطور في القسم الغربي من البلاد: لم يتمدد النزاع الليبي عبر الحدود، وليست هناك أي مؤشرات بأنه سيتمدد. غير أن التهديد الأمني الأساسي الذي تمثّله ليبيا مصدره تهريب الأسلحة إلى سيناء. لكن بدلاً من الاستثمار في معدات ضبط الحدود، مثل أجهزة الاستشعار، والطائرات من دون طيار، وزيادة الدوريات الميدانية، اشترت مصر معدات لإظهار قوتها غير مناسبة لجهود مكافحة التهريب.
حتى في البلدان حيث كان يُتوقَّع من مصر زيادة تدخلها العسكري، لم تبادر إلى القيام بذلك. على سبيل المثال، لم تقدّم مصر سوى دعم رمزي للسعودية في الحرب في اليمن. وكذلك نأى السيسي بنفسه عن النزاع في سورية، حتى إنه عبّر عن دعمه للجيوش “الوطنية”، بما فيها الجيش السوري، فيما رفض أي مشاركة في عمليات حفظ السلام.
على الصعيد الداخلي، ربما كان ظهور تمرد متطور تقوده الدولة الإسلامية في سيناء يستدعي إنفاق هذه المبالغ الطائلة، غير أن أنواع الأسلحة التي تم شراؤها لا تتناسب مع هذه المهمة. على سبيل المثال، لا فائدة من مقاتلات “رافال” التي ابتيعت من فرنسا، نظراً إلى أن الجيش المصري يملك في الأصل 230 مقاتلة “إف-166” تتمتع بإمكانات مماثلة – وهذا الرقم يفوق العدد الحالي للطيارين المدرَّبين في مصر. يُشار في هذا الصدد إلى أن مروحيات “أباتشي” التي سلّمتها الولايات المتحدة إلى مصر في كانون الأول/ديسمبر 20144 أكثر فعالية إلى حد كبير في مواجهة هذا النوع من التمرد. علاوةً على ذلك، لن تعود حاملتا الطائرات من طراز “ميسترال” بفائدة كبيرة في سيناء، حيث لا حاجة إلى تنفيذ عمليات إنزال برمائي. بناءً عليه، يصعب إقامة رابط بين القتال في سيناء وواردات الأسلحة الأخيرة.
لقد اعتبر بعض المحللين أن الهدف من هذه الواردات هو تنويع الجهات المزوِّدة للجيش المصري الذي يعتمد بشدة على الولايات المتحدة. لكن على الرغم من أن هذه الأخيرة عمدت مؤقتاً إلى تعليق شحنات الأسلحة إبان الانقلاب في العام 2013، إلا أنها لا تزال تقدّم لمصر، بموجب اتفاقات كمب ديفيد، مساعدات عسكرية قدرها 1.3 مليار دولار في السنة، ما يجعل مصر ثاني أكبر متلقّي للتمويل العسكري الأميركي في العالم. ربما كانت الرغبة في تنويع مصادر التزويد بالأسلحة من العوامل التي تؤدّي دوراً في هذا السياق، غير أنها لا تقدّم صورة وافية وشاملة.
يبدو التنويع الحقيقي في مصادر التوريد خارج متناول الحكومة المصرية الراهنة، لأنه يتطلب مبالغ طائلة من أجل إرساء توازن في مقابل المليارات التي استُثمِرَت في الأسلحة الأميركية خلال العقود القليلة الماضية. على الرغم من أن النظام المصري استثمر مبالغ طائلة في شراء الأسلحة، إلا أن الاستثمار المطلوب يتخطّى بأشواط قيمة المشتريات الراهنة التي تلقي بعبء شديد على كاهل الاقتصاد المصري الهش. يشغّل سلاح الجو المصري 584 طائرة ثابتة الجناحَين، 230 منها هي مقاتلات أميركية من طراز “إف-16″، ما يولّد تبعية بنيوية قوية للسلاح الأميركي. لذلك، من أجل تنويع مصادر التوريد بكل ما للكلمة من معنى، ينبغي على الحكومة المصرية شراء عدد أكبر بكثير من الطائرات.
وقد استنزفت مقاتلات “رافال” الـ24 التي ابتيعت من فرنسا مبالغ كبيرة. على الرغم من أن تنويع مصادر التوريد قد يكون عاملاً ثانوياً، إلا أن النظام لن يجازف على الأرجح بالتسبب بمزيد من التدهور في الوضع الاقتصادي من أجل تحقيق هذا الهدف، نظراً إلى أن المساعدات الأميركية استؤنِفت في شكل كامل في آذار/مارس 20155 باسم مكافحة الإرهاب.
بما أن التهديدات الأمنية الخارجية والداخلية على السواء لا تبرّر المشتريات، من الممكن أن الجيش يستعدّ لخوض نزاع داخلي. في العام 2011، انهار الجهاز الداخلي القمعي الذي كان تابعاً لحسني مبارك وكان يتألف من 1.5 مليون شرطي ومجنّد، في غضون 24 ساعة، ما استدعى تدخّل الجيش – الذي كان يحظى في ذلك الوقت بدعم شعبي كبير – للحفاظ على الأمن من دون إيقاع عدد كبير من الضحايا. إذاً، في حال اندلاع انتفاضة كبرى، ليست الشرطة والقوى الأمنية التابعة للدولة كافية. على ضوء هذه المعطيات، قد يكون الهدف من شراء أسلحة هجومية إظهار القوة في الداخل.
على سبيل المثال، يمكن استخدام حاملتَي الطائرات “ميسترال” للسيطرة على مدن حيوية مثل بور سعيد والإسكندرية والسويس – التي كانت المدينة الأولى التي خرجت تماماً عن سيطرة النظام في العام 2011 – على طول الساحل الشمالي والقناة. لقد لمّح السيسي إلى استخدام الجيش أداةً للقمع في الداخل في خطاب ألقاه في 26 أيلول/سبتمبر 2016، عندما أعلن أنه لدى الجيش خطط طوارئ للانتشار في مختلف أرجاء البلاد في غضون ست ساعات في حال اندلاع اضطرابات في الداخل.
بالمثل، قد يكون احتمال اندلاع نزاع داخلي الدافع وراء الاستثمار في سلاح الجو الذي يؤدّي عادةً دوراً فعالاً في القضاء على المقاومة في المدن. فقد اضطلع سلاح الجو السوري، بدعمٍ من سلاح الجو الروسي أحياناً، بدور حاسم في ضمان بقاء النظام، وجعل ميزان الحرب الأهلية يميل في نهاية المطاف لمصلحة هذا الأخير. في التجربة المصرية، كان السبب الأساسي وراء انهيار الأجهزة الأمنية في العام 2011 الهجمات التي شُنَّت على مراكز الشرطة في مناطق ذات كثافة سكّانية عالية. نظراً إلى طوبوغرافيا الشوارع الضيّقة والشبيهة بالمتاهات في هذه المناطق، العمليات البرية مكلفة ومحفوفة بالمخاطر. إذا كان النظام المصري يتوقّع أن تتكرّر هذه الهجمات – السيسي نفسه جاء مرات عدة على ذكر احتمال اندلاع حرب أهلية خلال زيارته إلى ليشبونة في تشرين الثاني/نوفمبر 20166 – تصبح زيادة الاستثمارات في سلاح الجو خطوة منطقية.
نظراً إلى غياب التهديدات التقليدية الحقيقية، وعدم ملاءمة الأسلحة للعمليات الراهنة الخاصة بمكافحة التمرد، وطبيعة السياسة الخارجية المصرية التي تتجنّب المجازفة، غالب الظن أن الهدف من هذه الأسلحة هو قمع انتفاضة حاشدة في المدن – من دون الاكتراث كثيراً للضحايا المدنيين الذين يمكن أن يسقطوا بسبب استخدام المقاتلات والمروحيات الهجومية.
لعل أكثر ما يثير الحيرة في هذه الفورة في الإنفاق العسكري هو أنها تأتي في وقت تتخبط فيه مصر في مواجهة أوضاع اقتصادية مزرية قد تتسبّب بإثارة اضطرابات اجتماعية. فالبلاد تواجه نقصاً حادّاً في احتياطيات العملات الأجنبية، ما يؤدّي إلى انخفاض شديد في قيمة العملة وارتفاع التضخم. على ضوء الأوضاع المادية للبلاد، يطرح هذا الإنفاق سؤالاً عن قدرة مصر على الوفاء بموجباتها المالية تجاه مدينيها، بما في ذلك صندوق النقد الدولي الذي أقرّ قرضاً بقيمة 122 مليار دولار في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي. لقد بلغ حجم الدين الخارجي المصري 60.1 مليار دولار، وهذا مبلغ ضخم جداً، مع تراجع الصادرات من 22.2 مليار إلى 18.4 مليار دولار خلال العام المنصرم. لعل الأولوية التي يوليها النظام لهذا الإنفاق العسكري، لا سيما على ضوء الأزمة الاقتصادية، هي مؤشرٌ عن مدى خشيته من اندلاع نزاع داخلي واسع النطاق، وحجم الاستعدادات التي يقوم بها في هذا الإطار (1).