بدأت قصتي مع الثورة قبل حصولها بأكثر من سنتين، كنت إماما لمسجد بمدينة العبور على أطراف القاهرة، وعقب صلاة الفجر دخلت غرفة الإمام فنعست قليلا، ورأيت في هذه الغفوة أني أعطي درسا، وفجأة سمعنا أصواتا عالية وضجيجا في الشارع كأنه صوت جماهير في مباراة كرة، ودخل علينا صديق ليقول لنا: مازلتم هنا والناس قد خرجوا في الشوارع؟! فكأني أردد كلامه لنفسي بصوت منخفض: الناس قد خرجوا في الشوارع؟ فيجيبني صارخا: نعم خرجوا نعم خرجوا. فاستيقظت.
أرسلت الرؤيا لشيخي كي يعبرها لي، فرد عليَّ أنْ خيرا بإذن الله، ولم يفسرها لكنه قال لي: الغريب أن نفس الرؤيا قد رآها شخص آخر أثناء نومه في المسجد بعد صلاة الفجر اليوم!!
وقد كان تأويلها بتأخر مشاركتنا في الثورة.
بعد هروب زين العابدين بن علي من تونس بدأت الآمال تدب في نفوس الشباب المصري المتطلع لمستقبل أفضل، وبدأت الدعوات لمظاهرات يوم 25 يناير (عيد الشرطة المصرية)، وتزايد التفاعل معها عبر وسائل التواصل الاجتماعي بين الفئات الشبابية دون غيرها، وبدأ الإعلام السلطوي في مواجهة ذلك بتحذير الناس من التواجد قرب وسط البلد رغم أنه كان في يوم الثلاثاء، يعني يوم عمل عادي.
لم أتفاعل مع اليوم بشكل عملي، غير أني تابعت الأخبار تفصيليا حتى أعلنت الداخلية قضاءها على التظاهرات وخلو ميدان التحرير من المتظاهرين، فانطلقت بعد صلاة الصبح لأرى بنفسي، وكنت أتمنى ثبوت كذب الداخلية فيما أعلنته، لكني للأسف.. وجدت الميدان خاويا كأن شيئا لم يكن.
استمرت التظاهرات والمواجهات مع الشرطة في مدن مثل الإسكندرية وبورسعيد والسويس يومي 26 و27 وتركزت الدعوات في القاهرة على النزول يوم الجمعة 28 يناير، خطبتُ الجمعة وصرحتُ على المنبر بوجوب مواجهة الظلم، وأشرت إلى بيان كانت أصدرته جبهة علماء الأزهر تدعو الناس فيه للنزول إلى الشوارع والميادين، لكن يبدو أن اسم الأزهر قد ارتكز في أذهان الناس أنه مناصر للسلطة ورافض لأي تحركات شعبية ضد النظام، لذلك كثرت الاستفسارات بعد الصلاة: كيف تدعو الناس لمواجهة الظلم وفي نفس الوقت تطالبهم بالرجوع إلى علماء الأزهر؟! فأوضحت لهم أن جبهة علماء الأزهر مختلفة عن مشايخه الرسميين، وأنها تحمل في طيات خطاباتها وبياناتها الأدلة الشرعية على وجوب الخروج على هذه الأنظمة المجرمة.
المهم في الموضوع أن مخبري أمن الدولة (الذين سألوني قبل الخطبة عن موضوعها؟ فأجبتهم أنكم ستسمعونها كاملة بعد قليل) لم يفهموا شيئا، حتى إنهم جاءوا يثنون على الخطبة ويمدحونني بأني لا أتكلم في السياسة!!
تحركت من المسجد برفقة اثنين من أقرب أصدقائي، حاولنا الاتصال بمشايخنا الذين نعرف عنهم مناصرة الحق وبغض الحكام المتجبرين، فلم يرد علينا أحد، لكننا فوجئنا بسيارة فيها الشيخ محمد عبد المقصود، فأشرنا له فتوقف مشكورا وبشرنا بالخير ودعانا للمشاركة لكن دون أن نلفت الأنظار بثيابنا أو بشعارات مميزة عن الجماهير، وبالفعل.. غيرنا ثيابنا وتوجهنا إلى ميدان التحرير وحال وصولنا ظنناه بقعة من القدس المحتلة تشهد اشتباكات بين قوات الاحتلال الصهيوني وأبناء الشعب الفلسطيني.
دخلنا بصعوبة إلى قلب الميدان، ووجدنا الشباب هم الذين يلاحقون الجنودَ ويجبرونهم على الهرب، وتجمع الجنود داخل ما تبقى لهم من مدرعات وسيارات وظلوا يطلقون الرصاص بشكل عشوائي حتى لاذوا بالفرار معلنين اختفاء جهاز الشرطة وبداية انتشار الجيش في الشوارع والميادين، وكانت لحظات فارقة من عمر الثورة المصرية، حيث أثبت الشباب قدرتهم على مواجهة السلطة بأسلحتها التي تستخدمها في إرهاب الشعوب بدلا من تسخيرها لحمايتهم.
خرجنا لنأكل ثم أحضرنا بعض الطعام والفاكهة للشباب في الميدان الذين فرحوا كثيرا بوجود ثلاثة أصحاب لحى ويظهر من حديثهم اهتمامهم بالدعوة والالتزام بالدين، ومباشرة سألونا: هل ما نفعله هذا حلال يا مشايخ؟ فقلنا لهم: لو لم يكن واجبا لما شاركنا معكم. فبدأوا بالهتاف (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، فجاءنا الإعلامي عبد الرحمن يوسف ليستأذننا في جعل الهتاف (الله أكبر) حتى لا نستفز العلمانيين أو غير المسلمين المتواجدين في الميدان، فتذكرنا نصيحة الشيخ عبد المقصود واستجبنا له، وكان عدد من تبقى بالميدان بعد تلك المعركة لا يزيد عن ألفي شخص، فقضينا الليلة في حوارات وأحاديث عن وجوب إسقاط هذه الأنظمة التي لا تملك شرعية دينية ولا شعبية.
وبدأ الخداع والالتفاف على هذا الحراك الشعبي باختراع هتاف (الجيش والشعب إيد واحدة)، رغم أن الصور الواضحة التي ينام فيها الشباب أمام ووسط دبابات ومدرعات الجيش وعلى جنازيرها تدل على محاولة هذه الدبابات والمدرعات اقتحام الميادين وفض الاعتصامات بحجة عودة العمل في مجمع التحرير وإفساح الطرق للسيارات داخل الميدان، وقد حصلت ملاحاة بيني وبين أحد الضباط بسبب هذه المحاولات التي تسببت جرأة الشباب بعون الله في إفشالها.
بدأ التداعي في المحافظات المختلفة لاحتشاد المتظاهرين في ميدان التحرير مع عدم إخلاء الميادين الكبرى في المدن والمحافظات الثائرة، وكانت الدعوة لأول مليونية يوم الثلاثاء 1 فبراير، وأصدر الدكتور يوسف القرضاوي بيانا حض فيه عموم الشعب المصري على النزول وأفتى بوجوب المشاركة في هذه الثورة، وأصبح الهتاف السائد (الشعب يريد إسقاط النظام)، وكانت المفاجأة مساء الإثنين أن الجيش (المناصر للثورة!!) بدأ في إغلاق ميدان التحرير بالأسلاك الشائكة، وبدأ في إغلاق كل مداخل القاهرة لمنع المتظاهرين من الوصول للميدان والاحتشاد فيه.
خرجتُ من الميدان بعد فجر الثلاثاء من أجل الراحة وتغيير ثيابي وشراء بعض الأطعمة والاحتياجات من مدينة العبور التي لم تتأثر بكل ما يحدث، وكانت الحياة فيها تسير بشكل طبيعي للغاية، وأثناء عودتي فوجئت بكمين الشرطة العسكرية يوقفني ويمنعني من المرور وحدثت مشادة بيني وبين قائد الكمين وقلت له أنتم رأس الظلم في هذه البلد، فاعتقلني وحبسني في زنزانة الكمين وحاول تعذيبي بالكهرباء إلا أنني دخلت في الصلاة مباشرة (على طريقة فريد شوقي في فيلم جعلوني مجرما)، كانت زوجتي وأولادي في السيارة التي عطلت الطريق، حاولوا تحريك السيارة لإفساح الطريق، فصرخت فيهم زوجتي وأخذت مفتاح السيارة، وحال تجمع السيارات بدأت زوجتي تحدث الناس أنني معتقل في الكمين بغير ذنب، وبدأ الناس في التفاعل حيث إن أغلبهم كان يريد المرور من أجل الذهاب للتحرير، فحصلت مظاهرة في المكان حتى تم الإفراج عني والسماح لنا بالمرور.
ومن المفارقات أنني مررت بعدها بكمين آخر للجيش، فنظر الضابط في شنطة السيارة فوجد خبزا وجبنا وعصائر بكميات كبيرة، فأغلق الشنطة وسألني: هل أنت ذاهب للتحرير؟ قلت له: نعم. فقال لي: هيا بسرعة قبل أن ينتبه لك قائد الكمين. فيما يبدو أنه كان ضابطًا محترما مؤيدا للثورة، لكن كما هو ظاهر أن هذا لم يكن توجه قيادات الجيش.
بعد هذه المواقف أصبح يوم الثلاثاء هذا من أفضل أيام عمري، حيث شاركني أولادي وهتفت طفلتي الصغيرة (نداء 80 مليون = ارحل يا فرعون)، وكنا نوزع ساندويتشات الجبن والعصير على المتظاهرين، وتعرفت على سامر (النصراني) الذي رويت قصتي معه في مقال خاص، وظهر في هذا اليوم حقيقة الاصطفاف الشعبي بعيدا عن النُّخب ومصالحهم.
ثم كان اليوم الذي عُرف بعد ذلك بيوم الجمل، وكان يوما عصيبا لكنه كان فارقا في أيام الثورة المصرية، فقبله مباشرة خرج مبارك بخطاب عاطفي خدع كثيرًا من المتظاهرين حتى تركوا الميدان وقالوا نعطيه فرصة للإصلاح!! فكانت حادثة إرسال البلطجية المدعومين من أفراد الشرطة متخفين بثياب مدني لتؤكد كذب مبارك وتعيد للمخدوعين عقلهم مرة أخرى ويرجعوا إلى الميدان.
بعد فجر الخميس خرجت مع أحد أصدقائي المصابين للبحث عن مستشفى، ليفاجئنا كمين للبلطجية المتفقين مع الشرطة ليسلمونا لهم بعدما سرقونا، ويتم احتجازنا في مديرية أمن القاهرة لمدة حوالي أربعين ساعة بلا غطاء أو فراش داخل الزنزانة مررنا خلالها بيوم الجمعة الذي زاد فيه عدد المتظاهرين بالميدان حتى كنا نسمع صوتهم من داخل مقر الاحتجاز رغم بعد المسافة، وجاءنا محقق من أمن الدولة وتكلم معنا بأدب على غير المعتاد منهم، وبعدها تركونا بلا سؤال أو مراعاة، حتى إنني رفعت صوتي مناديا على المأمور، فلما حضر سألته بانفعال: ما هو مصيرنا في هذا المكان؟ فأجابني: أنا لا أعرف مصيري أنا، فكيف أعرف مصيركم أنتم!! فكانت كلماته أقوى مبشرات النصر رغم أننا في الحبس.
أخرجونا في الثانية عشرة مساء الجمعة في وقت انتشر فيه البلطجية في الشوارع والطرقات، فقررنا أن نظل في السيارة حتى الصباح، فجاءنا (كبير الحتّة) وسألنا عن سبب وقوفنا بالسيارة في هذا المكان؟ فأخبرناه بالحقيقة. فقال لنا ما رأيكم أن تجلسوا معنا على القهوة وتحكون للناس قصة التحرير وما يحدث فيه؟ فوافقنا وذهبنا معه وتكلمنا بكل صراحة مع الناس وفوجئنا بأن المعلومات التي يبثها الإعلام فيهم أن معتصمي التحرير عبارة عن ميليشيات إيرانية وإسرائيلية، لكنهم صدقونا وأعلن بعضهم أنه سيشارك في الاعتصام بالتحرير، وأكرمونا وآوونا حتى الصباح ثم انصرفنا.
وبدأنا أسبوعا جديدا من عمر الثورة رافعين شعار (في التحرير حتى التحرير) إلى أن تنحى مبارك قبل المغرب يوم 11 فبراير 2011م.